طلالة من نافذة الذات في يوم ممطر
أفاق صباحا، كالعادة، وطنين أذنيه، يشوش عليه، بصخبه المزعج، عذوبة صباحه الناعم. فقد استيقظ على وقع سقوط قطرات المطر، التي تقذفها السحب المدلهمة بقوة، على الأرض، نتيجة الرياح العاصفة.
ولأنه لم يعهد، هكذا هطل، منذ فترة طويلة جدا، حيث عصف القحط، و ومضى الجدب بالديرة، لسنوات عديدة، بدت خلالها أرضا يبابا، بلا كلأ، وطوحت سنونها العجاف، بما تبقى من الأنعام،والقوت، حتى لا تكاد ترى سائمة، في فلاتها الرحبة.
وما أن قام متثاقلا، إلى الشباك، حتى اتكأ على إطار النافذة، وأحدق مليا، بلوحة هطول المطر، التي كانت جذابة، وساحرة، في تناغم تساقطها قبالته،ثم أحدق عبر النافذة، في شجرة الكالبتوس المعمرة، ليسحره تراقص أغصانها المتشابكة، بتناغم عجيب مع العاصفة، وهي تسوق المطر بغزارة إليها، كأنها جاءت لتطفئ ظمأها المتراكم عبر الزمن. وطفق يغور في تأملاته المباشرة، في الماضي البعيد، الذي كان فيه صبيا، ويشاكس مع إقرانه، يومها، زخات المطر، بتلقائية عارمة، بالجري في العراء، دون اكتراث لبلل، أو خوف من برد.
ويومها لم تكن أيكة الكالبتوس، قد كانت شيئا مذكورا، كما لم تكن الحارة، حاضرة بمعمارها الحديث. فهي لم تكن سوى بيوتا من الطين الخالص، المغطى بالقش، ليمنع سقوط ماء المطر على الناس. واستذكر كيف كانت قطعان الماشية، من الماعز، والأغنام، تعود أدراجها إلى المأوى،في ريف القرية، لتتفادى البلل، وربما الغرق، بفيض الأودية والغدران، حيث كان ثغاؤها بمراحها،عند الأصيل، يشكل سيمفونية عاطفية، يستجيب لها الراعي، بترنيم الأهزوجة،مع نفسه، وينعت شياهه ومعزاه، باللفظ المناسب، لكل حال،لكي تتبعه في رواحها،بتلقائية رتيبة،اعتادت عليها.
فجأة عاد إلى حاله،بعد أن فرك عينيه،ليطرد ما بقي عليهما من اثر نعاس، ليستذكر، أن التطور، كفيل بتغيير الكثير من ظواهر الحياة، وتقليم الكثير من نتوءاتها، فلاشك أن لكل تطور سوءاته، ومحاسنه، لكن العاطفة،عند الناس، تبقى مسكونة، على أية حال، بانطباعاتها الأولى، التي حفرت مكمن وجودها، في الذاكرة العميقة عندهم، واستقرت هناك، بحيث يصعب على المرء منهم، أن يتجاوز رمزيتها الكامنة، في أعماق الذات، ليدخل في حس الحال، بشواخصه الماثلة للعيان، حتى وان كان على حال أفضل.
ربما يكون هذا الإحساس، بمثابة قاعدة، تتحكم في انطباعات كل جيل، حيث يترادف دوما،التصور القديم، مع المولود الجديد من تصورات،في عملية تلاحم وجداني، يصعب تخطيه، عندما تتوقد العواطف، ويستعر الخيال في التأمل،بعد أن تطوح به الأيام،وتمضي بمشواره السنون.
نايف عبوش
التعليقات
|
الاستاذ الفاضل نايف عبوش سلمت يداك سنين المطر هي سنين الخير والربيع ومااجمل المطر كلمات جميلة معبرة دمت بالف خير الاعلامي محمد صالح ياسين الجبوري - الموصل - العراق |
|