محطة رقم 10 الفرزة الرابعة عشرة
غادرتُ في اليوم التالي برلين الغربية الى برلين الشرقية لأتوجه منها الى براغ بالقطار ومعي حقيبتي وهدية برجيت الى بافل.
لم تصادفني في عودتي هذه المرّة الى براغ مُنغصات وكانت مساءً ثم وصلتُ الى قسم الطلبة السابق حيث غرفة ابن خالي محسن وكان الوقتُ يتطلب مني أن اتحرك بسرعة لتمديد إجازتي الاعتيادية المنتهية برديفةٍ لها وهي إجازة مرضية وفي ذهني احتمالانالأول اجراء عملية لعيني التي تعرضت الى حادثةٍ في شهر نيسان عام 1953 اثناء دوامي العصري في مدرستي المركزية الابتدائية للبنين. والاخر هو اجراء عملية لأنفي الذي تهشم في حادثةٍ أمام دارنا بدراجة هوائية وكان عمري بحدود ثلاث سنوات وقد ذكرتُ ذلك بالتفصيل في محطاتي الأولى. وفي اليوم التالي من وصولي الى براغ التقيتُ بأخي وحددنا الموقف بالذهاب للمستشفى لقسم العيون ودخلنا غرفة فيها طبيبة اختصاص بجراحة العيون وبعد فحصها لي كانت النتيجة هي رفضها اجراء العملية خوفًا من حصول الازدواجية في نظري وهذا الكلام لم اقتنع به لكوني فحصتُ نظري عند طبيب عيون روسي عام 1961 بمستشفى مدينتي الكوت وهي بعثة طبية وبعد الفحص قرر الطبيب اجراء العملية يومها كنتُ في الصف الثالث متوسط فأجلّتُها لحين الانتهاء من الامتحان ولما راجعتُ مستشفى الرمد في بغداد كانت البعثة الطبية قد انهت اعمالها وقد عادت الى بلدها فأين كلام هذه الطبيبة الجيكية من كلام الطبيب الروسي على كل حال لا بُدّ لي من صرف نظري عن عملية العين الى العملية الأخرى وهي عملية الانف فراجعنا في اليوم التالي قسم الانف والاذن والحنجرة وبعد الكشف الاولي تحدد يوم العملية ودفعتُ أجورها حيث تم تصريف مبلغ كبير مما تبقى من الباوندات التي بحوزتي وكل هذا في صالح اخي نافع الذي يصرف ولا ادري ويدفع ولا أدري ويستحوذ على أوراق التوزك ولم ارها او اعرف شكلها.
جاء يوم العملية ودخلتُ صالة العمليات وكان الطبيب جالسًا على كرسي في ركن منها فأشار لي بالجلوس على كرسي آخر يقابله وبدأ العملية بتخديري موضعيًّا حول الانف ثم أخذ بقلع العظام المهشمة وكلما آلمني نزع العظام يقول لي: [ دوبري ] الى ان انتهى من عمله في غضون ساعة او اكثر.
مكثتُ في المستشفى ثلاثة أيام من ضمنها يوم العملية وجاءني نافع فأخرجني وقد كتب لي الطبيب تقريرًا وإجازةً بثلاثة شهور فقمنا بتصديقها من الخارجية الجيكية ثم السفارة العراقية وبعثتُ بها برسالةٍ مضمونةٍ الى العراق معنونةً الى غرفة تجارة الكوت.
وقد حصل أمامي أثناء مكوثي في المستشفى موضوع طريف وهو الاتي:
ففي اليوم الثاني زارت احدى النساء زوجها وكان راقدًا بجانبي وقد شاهدتُهُ وهو يرحب وباهتمام وأجلسها على سرير وجلس على سريره وجهًا لوجهٍ وأخذتْ المرأة تتكلم مع زوجها الى أن انتهى وقت الزيارة وهو لا يتكلم ويهز برأسه وبعد أن غادرت الزوجة المكان استعدل في جلسته والتفتَ نحوي مبتسمًا ونزع من أُذنيه شيئين صغيرين كحبة الحمص لم اعرفهما أتوقع انهما سدادتان فقابلتُهُ بابتسامة معناها اني فهمتُ الموضوع.
لم ابقَ في براغ أكثر من أسبوع وبقيت عندي نقود جيكية أكثر مما هو مطلوب مني تصريفه لا أعلم كم هي في جيب اخي نافع الذي كان من المفروض أن يُبين لي كم هي وكم صرف الى العملية ولكنه لم يتطرق اليها ولم أسألْهُ عنها ولكن طلبتُ أن يشتري لي بلوز من محلات البيع الى أصحاب التوزك والأجانب وقد ظهر انه صناعة هندية كما اشتريتُ طقمين كريستال جيكي واحد الى صاحبة مكتب العمل والأخر الى صديقة المهندس بافل/ برجيت باثك واشتريتُ الى ولدها قطار كهربائي/ وطلبتُ من نافع إحضار رسالة من بافل بتسلمه هديتها وأكدتُ عليه بالسفر الى العراق بأقرب وقت لأطمئن على وضعنا العائلي في العراق.
وقبل أن أختم موضوعي عن براغ طلبتُ من أخي أن أذهب الى السفارة الألمانية عسى أحصل على فيزا.
ذهبنا اليها وبعد انتظار وافقوا على منحي فيزا لمدّة شهر ولكوني طمّاع قلتُ لنافع أن يعطوني ثلاثة أشهر فكانت النتيجة أنهم أرجعوا لي الجواز مختومًا بالرفض على نفس الصفحة رقم 17.
لملمتُ اموري وركبتُ القطار وحسب الأرقام دخلتُ المقصورة وقعدتُ على الكرسي المخصص والمثبت رقمه في البطاقة وبعد جلوسي بقليل دخلوا عليّ ثلاثة: شابّان وشابّة
حاول الثلاثة اخراجي بشيء من العنتريات فوجدوني صلبًا لم اتنازل عن حقي فسكتوا مرغومين وسار بنا القطار وعلى بالي اغنية الريل وحَمَد: يا ريل صيح بحزن صيحة قهر يا ريل/ جودر هواهم ولك تحت السنابل كطه.
استرخى الجميع للنوم وانا بين النوم واليقظة سمعتُ لطمة وشممتُ رائحةً ورأيتُ الشابة تتكلم مع صاحبها الذي كانت نائمةً على صدره تكلمه بشيء من الانفعال ثم عاد الحال ولم تتكرر الرائحة الى أن دخلنا برلين الشرقية. ولكوني على عجل انتقلتُ منها الى الغربية وتوجهتُ الى سكني الذي فيه الشيخ صبيح فوجدت سريري قد اخذه مستأجر آخر وبعد حوار مع الشيخ صبيح هداني الى حل وقتي وهو أن الصليب الأحمر يوجد لديه مبنى يستقبل به مَنْ لا يجد مأوى لمدة ثلاث ليالٍ مع وجبة إفطار مجانية فأعجبتني الفكرة فحملتُ حالي وذهبتُ مساءً الى مبنى الصليب الاحمر.
دخلتُ المبنى وتكلمتُ مع الاستعلامات فأعطوني ورقةً وصعدتُ للغرفة فتبين لي انها ردهةٌ فيها مجموعة من الأسِرّةٍ ذات طابقين تستوعب عددًا من النُزلاء الطارئين مَنْ هم مثل حالي.
اخترتُ سريرًا في وسط الغرفة في طابقِهِ الأول وبقي السرير الذي فوقي لا أدري لمَنْ وتمنيتُ أن يكون شاغرًا.
وبعد مرور هزيعٍ من الليلِ صعد شخصٌ الى السرير الذي فوقي ومن دون أن أراه أو يراني وذلك لإطفاء الضوء عند حلول العاشرة وبعد صعوده بدقائق أخذ بشتم العرب ويقول: شايزه اربكا / ومعناها العرب خره/ كرر العبارة مرّات وهو يمدُّ عنقه نحوي وأنا أحدث نفسي:هاي أول ليلة والله الساتر!!!
تحملتُ الى أن فاض كيلي فقمتُ له وأمسكتُ بعنقه أكاد أقطعها وأقول له رجاء بالانجليزية دعني أنام وهو يتلوى بين يدّي ثم تركتُهُ وبعدها عاد فعُدتُ أشبعه لكمات دفن مع رجائي أن انام فيسكت فأعود لفراشي ولكن هذا الشخص لم يتركني انام وهو يكرر العبارة شايزة اربكا ويمد عنقه نحوي فبدلتُ اسلوبي فكان كلما يقولها تأتيه دفرة من الأسفل
فيسكت الى أن دفرتُهُ دفرةً كافرةً على أثرها خمد صوتُهُ فـنِمتُ بما تبقى من ليلتي.
وفي الصباح جلستُ والأخرون حسب التوقيت المحدد من الإدارة وذهبتُ الى المغاسل لأغسل وجهي واذا به ماء يصعقُ من برودته فتحملتُهُ وغسلتُ وجهي وارتديتُ ملابسي ثم نزلتُ الى الطابق الأرضي فتناولتُ الإفطار المجاني وخرجتُ متوجهًا الى المنسا أي نادي الطلبة حيث اقضي فيه بقية يومي وأتناول فيه طعامي لسعره المناسب.
نمتُ ليلتي الثانية بلا مشاكل وتناولتُ الفطور في الصباح وتوجهتُ الى المنسا وفي المساء اتصلتُ ببرجيت باثك صديقة المهندس بافل واخبرتها بأنّي أحمل رسالةً منه وأنّي الان أنام في مبنى للصليب الأحمر فأجابتني بأن أقضي ليلتي الأخيرة في المبنى واتوجه لها ومعي حقيبتي مساء اليوم التالي فأنهيتُ المكالمة معها بالشكر.
بِتُّ ليلتي الثالثة وبلا منغصات وتناولتُ فطوري ثم توجهتُ الى المنسا حيث اقضي فيه بقية يومي وعند دخولي وجدتُ بسطاتٍ لناسٍ مفروشة على الأرض فأحببتُ أن أتفرج عليها ثم وقفتُ على احداهن وتأملتُ المعروض عنده وتكلمتُ مع صاحبها وبعد الكلام تبين لي انّهُ مغربي يحمل الجنسية الفرنسية وهو رسّام وقد اعجبته تقاطيع وجهي فهي تقاطيع الرجل الروماني كما قاله وهذا أول معجب بوجهي فعرض عليّ العمل ببيع ما معروض عنده فاتفقنا وحدد لي الاجر بـ 5 ماركات وخلال ذلك الوقت بعتُ له قطعةً من معروضاته وفي المساء انتهى عملي وبدلًا من اخذي الأجر أخذتُ قطعةً بمقدار اجري هديةً الى برجيت باثك اضافةً الى طاقم الكريستال والقطار الى ابنها. اتصلتُ ببريجيت وأخبرتُها بانتهاء أيام المبيت فقالت لي: إحملْ حقيبتك وتعال الى شقتي وهذا مالم تصدقه أذني فأعدتُ عليها القول فأكدت لي ما قالتْ فطِرتُ فرحًا وذهبتُ لإحضار حقيبتي من المحطة وكانت في احد صناديق الودائع ثم توجهتُ الى شقتها. نِمتُ ليلتي تلك مع ابنها / شتيفان المغربي الاب/ ولما أصبح صباح الاثنين لم اجد أحدًا لا ابنها ولا هي وعند خروجي من الحَمّام اصطدم وجهي بوجه رجل فارتجّ عند ما شاهدني فتوقعتُ انه صديقها ولم تُخبره بوجودي. خرجتُ كالعادة الى المنسا لأفطر وأقضي الوقت حتى العصر وفي حلوله توجهتُ الى مكتب أطلس للحصول على عمل ومعي هدية صاحبة المكتب فقدمتُها لها فلم تقبلها مني وبعد نقاش قصير مع والدها الذي كان جالسًا وراء منضدة أخرى وافقتْ على قبولها وأعطتني عملًا جديدًا لا أدرى أين موقعهُ. بعدها عُدتُ لشقة برجيتُ فوجدتُها قد هيأت غرفةً صغيرةً فيها سريرٌ وفي زاويتها وضعتْ مزهريةً فيها ورد فأعجبتني وكان الدخول اليها من داخل المطبخ.
عطا الحاج يوسف منصور
التعليقات