حين تصبح الانتخابات"مازقاً" لا "خياراً" ديمقراطياً
من البديهي ان كل بلد يشهد تحولات شاملة في طريقة الإدارة والحكم، لابد ان ينتج بعد مخاضات عصيبة (حالة من التقدم والارتقاء) في إدارة شؤونه وفلسفة الحكم ليتميز بحالة من العبور نحو النضج السياسي وتنشيط الأدوار لمكونات المجتمع، لما لتراكم الخبرة من دور في ترسيخ التجربة الديمقراطية وتعزيزها عمليا وخير ما يبرهن ذلك تجربة الانتخابات لاكثر من دورة شهدها بلد مثل العراق.
حال تلك التجارب في العراق لا وجود لما يماثلها من خصوصية في البعد الاستراتيجي للسياسة والاقتصاد والامن في مستواه الداخلي والخارجي، أضف إلى ذلك إختلاف الرؤى للطبقة الحاكمة وتعدد الأحزاب ووجود الفصائل (المليشيات) ذات الطابع (العقائدي والمسلح) في آنٍ واحد، ناهيك عن التجاذبات الإقليمية التي تلقي بظلالها على الشركاء في الداخل.
مثلت النتائج المعلنة إنتخابات العراق التي أجريت مطلع شهر أكتوبر/ تشرين أول الماضي من هذا العام، صورة أخرى لواقع يختلف تماماً عن الدورات البرلمانية السابقة لاختيار ممثلي الشعب.
إن نتائج الانتخابات شكلت صدمة سياسية كبيرة لدى الأحزاب الرئيسة التي كانت لها حظوة أكبر في الانتخابات السابقة مثل (تيار الحكمة، وقائمة الفتح، وتحالف النصر) وعلى وجه الخصوص تلك الفصائل التابعة لإيران، والصدمة تمثلت بتراجع حجم التمثيل والأصوات التي كانت تتأمل الحصول عليها لكي تؤهلها للفوز أو الحصول على نصيب أكبر من الكعكة أو الغنيمة كما يسميها تجار الحرب.
بطبيعة الحال هذا يؤكد حدة الصراع والدخول بمأزق سياسي جديد ونفق مظلم يدخل الشارع العراقي بتعقيدات آخرى تتمثل بالتصعيد الذي قامت به مجموعات خارجة عن القانون موالية للأحزاب الخاسرة التي شككت بنزاهة الانتخابات وطعنت بحياديتها رغم انها حظيت بدعم اممي وتأييد شعبي.
ان حدة الصراعات القائمة بين الأحزاب والكتل المشاركة في العملية السياسية ومحاولة البعض تكريس نظام المحاصصة الطائفية والتوافقات السياسية، يبقى الميدان العراقي على مبدأ الولاءات المذهبية والإثنية والعرقية ويضعف من نسيجه الاجتماعي المتماسك، ويؤثر على روح المواطنة والانتماء الحقيقي للوطن.
مرشحو إيران والاستياء الشعبي
تتأكد حقيقة المأزق السياسي في تصاعد حدة الصراعات القائمة بين التيارات المشاركة في المنافسة الانتخابية التي تحاول تكريس نظام التوافقات والمحاصصة السياسية المقيتة والتي دفع الشعب العراقي فاتورتها على مدى الدورات الانتخابية المتتالية، وهذا ما يثير استياء الشارع العراقي في كل دورة برلمانية جديدة، حتى بات ذلك الشارع يمقت النهج (غير الديمقراطي) المتعكز على المحاصصة وفقدان الثقة بالاخر (الشريك) في بناء الوطن مهما كان شكله (مؤسسات ونخب، تجمعات مدنية ومنظمات حرة، او مستقلين)، ويبقى وفق ذلك النهج السيء الميدان مفتوحاً على مبدأ الولاءات في نطاقها الضيق كالتعصب للمذهب او الجماعة او (التشكيل المسلح) وهذه النقطة بالذات تعيد الحال لما هو أسوأ وينعكس سلباً على سلامة المجتمع ويقوض بذلك مبدأ المواطنة وروح الانتماء للبلد الواحد.
ما الغريب في الإعتراض؟!
تفاصيل الدعوى القضائية التي رفعت من جهات لا تقر بنتائج العد والفرز للاصوات الناخبين، وهي مقدمة إلى المحكمة الاتحادية، ويمثل ذلك المسار من يهدف لإعادة الانتخابات في موعدها الدوري، وهو يونيو (تموز) المقبل، بداعي حصول تلاعب وتزوير في الاقتراع ، وهو التوجه الذي تبناه تحالف الفتح بشكل رسمي أمام القضاء العراقي.
إن الأدلة التي قدّمها تحالف الفتح للمحكمة الاتحادية، لا ترقى لاتخاذ إجراء الإلغاء للانتخابات وإختيار توقيت آخر للإعادة، وإنما يمكن إحداث فروق طفيفة في بعض المقاعد، خاصة لما يشكل ذلك الاجراء من مازق قانوني يأتي بالنتائج العكسية في مسالة الانتخابات وإعادتها.
مع ظهور النتائج الالكترونية للانتخابات وتقديم العد والفرز اليدوي، برزت مواقف وانطباعات تشيد بالممارسة الديمقراطية رغم ما رافقها من إشكالات لا تخل من مستوى تلك الممارسة، وبرزت مواقف مجلس الأمن الدولي وممثلي المنظمات المتابعة والولايات المتحدة والعديد من الدول الاوربية والجامعة العربية، وما بينته ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة بلاسخارت بعد أيام من ظهور النتائج لتعطي تصوراً واضحا عن سير الانتخابات وفق المسار القانوني المأمول، هذا الامر أثار حفيظة المعترضين ممن خسروا أصوات الشارع العراقي ليجتاز ذلك الاعتراض حدود قبول النتائج بل الغاء الانتخابات والقول بعدم شرعيتها.
"الاطار التنسيقي" والحشد
إن زج "الحشد الشعبي" في هذا الصراع اتخذ صورة التأجيج النفسي لفئات من تشكيلات عسكرية رسمية لمؤسسة دارت حولها الهواجس وحول ما يمكن ان تقود اليه من نتائج بالضد من الاستقرار وبسط السلم، فبدلاً من أن يكون هذا التشكيل مثابة (مؤسسة عسكرية) تضاف لصنوف الجيش والمؤسسات الأمنية التي تحفظ الامن وتدافع عن سلامة الوطن والمواطن، أصبحت جزءاً من فتيل يتقد مع أي ازمة سياسية ويندفع ممثلوه نحو الاصطفاف لطيف سياسي ذو صبغة مذهبية تتحدث عن الدين والسياسة وتتحكم بإدارة التفكير للجمهور في آن واحد، فتقوم بشحن الفئة المقصودة من الجمهور بافكار رافضة لمجريات العملية الديمقراطية، وتعلن بذلك الإنتفاض على سلطة القانون وتحرق الشارع في مظهر متناقض، لا يمكن ان تستوعبه (ذات عاقلة) في ان تحارب الدولة نفسها، فكيف بحامي الدستور (تشكيل امني مصادق عليه شرعياً) ومسؤول عن الامن ان يرفع السلاح تجاه السلطة ويتسبب في الاخلال بالأمن وهو من المفترض ان يكون شريك في الحفاظ عليه؟! ذلك التوجه يمثل مسعىً لاضفاء الشرعية على مطالب يقف خلفها سياسيون ومخططون من أحزاب تحرك الفصائل المسلحة لكن بغطاء رسمي يتخذ من الحشد عنوانا له.
خيار وحدة الكلمة ودعم القانون
سواء أكان الاعم الاغلب من المعترضين قد نوه إلى ما يكتنف نتائج الانتخابات من (هنات، ونقاط تقصير) او خلل ببعض محطات الاقتراع لكن ذلك بالمجمل لا يعني نسف العملية الديمقراطية، وإلغاء إرادة الجماهير التي تمثل الوقوف مع سلطة شرعية لمؤسسة عملت في ظروف حرجة خرجت من خلالها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بهذا المنجز الصعب الذي تحيط به ارادات دولية وتحديات من دول الجوار ممثلة بالازمات المجتمعية وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فبدل من ان يرفع السلاح بوجه من عمل على بسط القانون واجتياز عامل الزمن لاختيار ممثلي الشعب كان حري بالمعترضين التسليم بنتائج الانتخابات والعمل على تصحيح المشروع السياسي الذي قاد الى فقدان ثقة الجماهير بممثليهم في البرلمان وان الانتخابات ما هي الا فيصل يميز من خلاله من عمل على بناء البلد ومن لم يقوم بوجباته والتزاماته الأخلاقية والقانونية.
أسعد كاظم الربيعي
التعليقات