بعض الأبعاد التربوية للنهضة الحسينية
في شهر محرم الحرام من كل عام نستذكر ايام عاشوراء الحسين عليه السلام على الرغم من ان ذكراه باقية في قلوبنا وضمائرنا على مر السنين والايام . فقد اصبحت هذه الايام الخالدة في تأريخ البشرية نبراسا ومنارا لكل الاجيال على مر الدهور .
ففي هذا الشهر نهض سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام بثورة كبيرة في معانيها عظيمة في دلالاتها استطاعت ان تغير وجه التاريخ وان تكون ناقوسا للانذار يدق في وجه كل المتكبرين والطغاة ويذكرهم بان ارادة الشعوب اقوى من كل جبابرة الارض والعتاة فيها.
ان هذه النهضة الحسينية المباركة قد اعطت دروسا كبيرة ومعاني عميقة لايمكن حصرها هنا ففيها انتصر الدم على السيف حيث انتصر الحسين باهل بيته واصحابه قليلي العدد والعدة كبيري المباديء والذين استشهدوا في هذه الثورة انتصارا كبيرا على الكثرة الظالمة المتجبرة المجهزة بانواع الاسلحة والامكانيات .
ولم يحصل أي حدث كبير في العالم على مدى التاريخ على الاهتمام والدراسة والبحث مثلما حصلت عليه نهضة الامام الحسين عليه السلام فقد نالت اهتمام مختلف الشرائح الاجتماعية والانتماءات الفكرية والعقائدية حيث كتب عنها كل من المسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم من الديانات والطوائف والقوميات .
وتحدث عن نهضة الامام الحسين عليه السلام كل من المؤرخ والمفكر والتربوي والباحث وعالم الدين والشاعر والفنان وغيرهم . فالأديب يراها مصدر إثراء للشعر والنثر ويراها المؤرخ نقطة تحول في الأحداث التاريخية والصراعات بين الشعوب ويراها رجل الدين نقطة ارتكاز للعقيدة الحقيقية ورفض للمعتقدات الدخيلة والخاطئة التي تحاول استغلال الدين لتحقيق المصالح والمكتسبات الدنيوية ويراها عالم الاجتماع نقطة تمايز اجتماعي ويراها السياسي مدرسة للتخطيط والتنظيم الإداري في الحكم ويراها الناس العاديون مبعثاً للعزيمة في المطالبة بالحقوق والثورة على الظلم والاستبداد والالتزام بالمبادئ.
واتفقت جميع هذه الشرائح والفئات والمفكرين والكتاب على أن نهضة الامام الحسين عليه السلام هي عبارة عن مأساة إنسانية حقيقية حدثت عام 61 هجرية في ارض كربلاء حملت في طياتها بعدان رئيسان حيث اتفق الجميع على البعد الأول وهو البعد العاطفي بينما تباينت أرائهم في البعد الثاني حيث يراه المؤرخ بعدا تاريخيا ويراه رجل الدين بعدا عقائديا ويراه الأديب بعدا أدبيا ويراه التربوي بعدا تربويا .
لقد كان لزاما على ابي الشهداء ان ينهض بدعوته الكبيرة لغرض رفع الحيف والظلم الذي حل على مباديء دين جده الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله وسلم ومحاولة تشويه صورته الحقيقية وابعاده عن مبادئه العظيمة وانسانيته .
فقد سيطر على مقاليد الدولة العربية الاسلامية مجموعة من الحكام الجبابرة الذين اتخذوا من الدين الاسلامي الحنيف ستارا واقيا لهم لكي يعيثوا في الارض فسادا ويعيدوا امجاد الجاهلية . وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ابان دعوته للاسلام بجميع ما يملكون من وسائل وامكانيات .
لقد اراد الامام الحسين عليه السلام ان يطلق كلمة " لا " للظلم والطغيان وهي اكبر صرخة مدوية واعظم لا قيلت على مدى الاجيال . فقد عز على ابي الاحرار ان يرى دين جده العظيم الذي نشره بتضحيات المؤمنين الكبيرة واساليبهم العظيمة في الهداية وكسب ايمان الاخرين ينحرف عن مساره العظيم الذي اراده الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم وتتحول الدولة الاسلامية التي بناها الرسول الكريم واصحابه الميامين الى دولة ظالمة يقهر فيها الضعفاء وتزداد كنوز الاغنياء وان تتحول الى مصدر لمحاربة اهل بيت النبوة الكرام ومحاولة الحط من قدرهم وتشويه صورتهم الكريمة التي اراد الله سبحانه وتعالى لها ان تبقى نقية طاهرة عظيمة تتجدد على مر الدهور في قلوب وضمائر المسلمين .
لقد استذكر الامام الحسين عليه السلام سليل الدوحة المحمدية المباركة الذي نشأ وتربى في حضن هادي البشرية الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، استذكر بطولات وصولات ابيه امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي قال عنه الرحمن على لسان جبريل عليه السلام لافتى الا علي لاسيف الا ذو الفقار في جميع معارك الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم التي نشر فيها الاسلام . لذا ابى سليل البطولة والشجاعة على نفسه الضيم والخنوع للطغاة الفاسقين .
لقد قدر الله سبحانه وتعالى للامام الحسين عليه السلام ان يكون صاحب هذه النهضة المباركة وان يعيد الحق الى نصابه وان تكون ثورته مفترق بين طريقين هما طريق الحق ممثلا في الامام الحسين واهل بيته واصحابه الكرام الذين قدر لهم الله ان يكونوا حاملي لواء اصحاب الجنة والفضيلة وطريق الشر والطغيان ممثلا في يزيد بن معاوية بن ابي سفيان واتباعه الاذلاء الاراذل الذي قدر لهم الله ان يكونوا حاملي لواء الطغاة الى جهنم وبئس المصير .
ان نهضة الامام الحسين عليه السلام كانت نقطة تحول كبيرة واساسية في مسيرة الدين الاسلامي والرسالة السماوية . فلولاها لاستمر الانحراف عن طريق الاسلام الحقيقي يكبر ويتصاعد شيئا فشيئا دون رادع . ولأستمر الطغاة يعيثون في الارض ظلما وفسادا والمسلمين المغلوبين على امرهم في حينها لاحول لهم ولاقوة في التصدي لهم .
ان هذه النهضة الحسينية الكبرى اعادت للاسلام هيبته لان العالم عرف بان هناك من يسعى لتصحيح مسيرة الاسلام وانه فيه الكثير من الرجال المؤمنين القادرين على تصحيح مسيرته من اجل بقاؤه دينا حيا متجددا انسانيا هاديا للبشرية جمعاء .
إن الإرث الكبير الذي خلفه لنا الامام الحسين عليه السلام هو إرث تربوي بالدرجة الأولى . وهذا يعني أن واقعة كربلاء هي في الواقع مدرسة تربوية لا تنحصر في دين أو مذهب أو تيار معين حيث اصبح منهلا للنفس البشرية بغض النظر عن انتمائها لأنه يسمو بهذه النفس باعتبارها نفسا إنسانية لا باعتبارها نفسا إسلامية . وهذا المعنى يمكن أن نستقيه من قول الامام الحسين عليه السلام وهو يخاطب جيشا كبيرا اجتمع لقتله حيث قال : أيها الناس إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم .
وهذا يتطلب استقصاء الدروس التربوية والقيم الفاضلة التي تضمنتها ثورة الامام الحسين عليه السلام وليس فقط حادثة عابرة في يوم العاشر من محرم عام 61 هجرية بما يسهم في تعزيز حالة السمو النفسي عند الانسان على المستويين الفردي والاجتماعي . ولتحقيق ذلك فإنه لابد من العمل على الحصر النوعي لهذا التراث التربوي والأخلاقي . ومن ثم إعادة صياغته باساليب مختلفة يتم توجيهها لمختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية في جميع مراحل حياة الانسان .
وينبغي إشراك التربويين والمختصين في إعداد وتنفيذ الاعمال المتعلقة بنهضة الامام الحسين عليه السلام سواء كان هذا العمل مسرحية أو قصة أو كتاباً أو عملاً سينمائياً فلا يكفي في أن يقوم كاتب قصصي مثلا مهما كانت براعته في الكتابة ودرجة إتقانه بكتابة قصة كربلائية دون الاستعانة بأحد التربويين .
كما لا يكفي أن يقوم التربوي بهذا العمل بصورة مفردة فالكاتب القصصي سيكون حريصا على ما يسمى بالحبكة الدرامية والترابط القصصي وتسلسل الأحداث بينما قد لا يتمكن هذا الكاتب من تحديد الأهداف والدروس التربوية الواجب التركيز عليها في العرض مما يضفي الطابع القصصي على العمل فيما يغيب عنه البعد التربوي . كما قد يستطيع التربوي تحديد هذه الدروس غير أنه لا يكون بالضرورة قادراً على صياغته في اساليب ملائمة الى العرض .
ولابد من العمل على تطوير أداء المنبر الحسيني بحيث يتحول من التركيز على العاطفة إلى التركيز على استخراج العبر والدروس وعرضها باساليب تربوية منطقية تشتمل على عنصر الإثارة والتأثير في نفس الانسان مما سيكون له اثرا واضحا في الاستفادة من الطاقات الفردية لإنجاز الاعمال الجماعية .
وتلعب المؤسسات الجامعية دوراً مهماً في غرس القيم التربوية الفاضلة لدى الطالب الجامعي حيث تمتاز المؤسسات الجامعية عن غيرها في عملية التنمية التربوية من حيث أنها بيئة تربوية مبسطة لتدريس المواد العلمية والثقافية وتقوم بتعليم الطلبة بشكل مباشر من خلال الخبرات الشخصية وخبرات التدريسيين وهي تعمل على تعديل سلوك واتجاهات الطلبة وتجمعهم في ثقافة واحدة وهذا يسهل العمل التعاوني بين الطلبة .
ونحن نرى ان الاهتمام بغرس وتعزيز القيم الدينية وما ينبثق عنها من قيم تربوية في المؤسسات الجامعية ضرورية لنجاح العملية التعليمية وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها الفاضلة وهي بناء شخصية الطالب الجامعي وتعديل سلوكه القويم وفقا لمباديء الدين الاسلامي وتزويده بالمعارف والمعلومات في مجال تخصصه . فالقيم مصدر رئيس في بناء شخصية الطالب وتأكيد هويته الوطنية والدينية . وعليه فعلى المؤسسات التربوية والجامعية أن تجد القيم اللازمة لتوجيه طلبتها نحو الاتجاه التربوي الصحيح .
ان المؤسسات الجامعية بامكانها ان تقوم بدورها الريادي في تنمية القيم التربوية والأخلاقية لدى الطالب الجامعي من خلال استلهام الابعاد والمضامين التربوية لنهضة الامام الحسين عليه السلام من خلال الاجراءات الاتية :
1 - ربط الأهداف التعليمية للمؤسسات الجامعية بالأهداف التربوية لثورة الامام الحسين عليه السلام من اجل ان تكون العملية التعليمية وسيلة تربوية لغرس القيم الفاضلة والتمييز بين الخير والشر والحق والباطل وتساهم في الحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه وشيوع الفضيلة بين ابناءه .
2- تضمين المناهج الدراسية لأهداف ومضامين القيم التربوية التي تجسدت في ثورة الامام الحسين عليه السلام .
3- التأكيد على ان يمثل الاستاذ الجامعي قدوة حسنة وان يكون قادرا على تنمية القيم التربوية الفاضلة في ثورة الامام الحسين عليه السلام من خلال التزامه بتلك القيم ومراعيا لطبيعة عمله التربوي والاكاديمي ومتمكناً من تخصصه العلمي واستخدامه لطرائق واساليب التدريس المناسبة التي تحقق هذه القيم .
4 – ضرورة قيام المؤسسة الجامعية بتوفير البيئة الجامعية المناسبة لاكتساب القيم الفاضلة من خلال توفير العلاقة الايجابية بين جميع العاملين في المؤسسة الجامعية وبين مؤسسات المجتمع المختلفة .
5- اهمية امتلاك التدريسيين للمواقف العلمية التي يمكن من خلالها ممارسة القيم الأخلاقية والتربوية المستوحاة من القيم التربوية لثورة الامام الحسين عليه السلام وضرورة إتاحة الفرصة للطلبة للمشاركة وتحمل المسؤولية في السعي لبناء القيم التربوية الفاضلة . وهذا يتطلب من المؤسسة الجامعية الاهتمام بالأنشطة التعليمية المتنوعة التي تساهم في تحقيق هذه الاهداف .
6 - ضرورة قيام المؤسسات الجامعية على تنفيذ برامج تربوية وارشادية وتدريبية للطلبة من اجل تنمية وتعزيز القيم التربوية الإسلامية بشكل عملي من اجل تحصين الطلبة وجعلهم قادرين على مواجهة الغزو الفكري والافرازات السلبية للحضارة الغربية .
7 – تطوير مفردات المناهج الدراسية في المؤسسات الجامعية في ضوء التطور العلمي لكي تستطيع مواكبة تحديات هذا التطور مثل التحديات الأخلاقية والقيمية والتربوية التي يتعرض لها الطلبة عبر تقنيات الاتصال الحديثة وشبكة الانترنت ومواجهتها من خلال الاهتمام بتحصينهم ضدها في ضوء قيم الدين الاسلامي الحقيقية والمضامين التربوية لمنهج أهل البيت عليهم السلام والابعاد التربوية لثورة الامام الحسين عليه السلام .
أ.د.موفق الحسناوي
التعليقات