أحبّ (لميس) .. واكرهُ (عالية نصيّف )
لم تكن السياسة ولوقتٍ قريب تعنيني بشيء ، فأنا لا اتابع نشرات الاخبار ، ولا البرامج السياسية ، ولا اعرف اسماء الوزراء ، ولا اعضاء مجلس النواب ، بل افضّل مشاهدة المسلسلات التركية ، واجد لذّة كبيرة وانا اناقش اصدقائي حول احداث مسلسل (حب اعمى ) ، او ( نبضات قلب ) ، او (العشق الاسود ) ، واهيم بتفاصيل حياة ابطال هذه المسلسلات .. (كمال ، نيهان ، امير ، ايليف ، وزينب ، اوزغور ، او .. عالية نصيف ) ... لا .. عالية نصيف ؟؟ .. لالا .. هذا الاسم سمعته مؤخرا ، وسبب لي صداعا .. بل بات كابوسا يطاردني .
لم اخبركم ، بأني وضعتُ قبل شهر من الآن .. نهاية لتوسّلات امي ، بأن تخطب لي ابنة الجيران ، والتي اختارتها بعناية فائقة ، وحسب مواصفاتها ، (خجولة ، لاترفع عينيها عن الارض ، تجيد الطبخ ، وغسيل الملابس ، ترتدي الحجاب ، لاتخرج من البيت الا مع امها ، لاتذهب الى الجامعة ، فقد تركت الدراسة في المرحلة المتوسطة ) ، وهذه المواصفات كما ذكرت لي امي ، قلما تجدها في فتيات اليوم .
وافقت على الفتاة ، مثلما اوافق على أمر يومي بسيط ، وكنت اريد ان انهي الحديث مع أمي بأي صورة كي اشاهد مسلسلي التركي المفضّل .
ولكن ما علاقة عالية نصيف بموضوع الخطوبة ؟ ففي الاسبوع التالي للخطوبة الرسمية ، كنا انا وامي في ضيافة بيت خطيبتي ، ودار بيني وبين خطيبتي حوار هامس وسريع ، سالتني عن متاعبي في العمل ، فاخبرتها ، بأني موظف في احدى دوائر الدولة ، وراتبي محدود ، وتقتطع منه الحكومة نسبة كبيرة ، وبعد الدوام اعمل مع صاحب اسواق قريبة من بيتنا ، ولكنها مستورة والحمد لله . كانت خطيبتي الخجولة ، تستمع لي وعينيها مطرقة الى الارض ، ثم رفعت عينيها ، وحدقت طويلا بملامح وجهي ، ثم نظرت الى قميصي الذي ارتديه ، وبنطلوني ، فأرتبكتُ من نظراتها ، وازداد ارتباكي وهي تطيل التحديق في جواربي ، ثم تسلّقت نظراتها قامتي لتصل الى شعري ، ومطّت شفتيها ، يبدو ان تسريحتي لم تعجبها ، ثم تمتمت بكلمات مسموعة وهي تنظر الى سقف الغرفة ، ( طوّر نفسك شبيك ... حتى عالية نصيف احسن منك ) ؟؟
استمعت الى الاسم جيدا ، وقلّبته في ذهني بسرعة ، واسقطتهُ على كل المسلسلات التركية التي تابعتها واتابعها ، لكني لم اتذكر هذا الاسم ، ثم غادرتْ خطيبتي جلستنا وهي تهز يدها مستاءة .
حين عدت للبيت ، سألت امي ، من هي عالية نصيف ؟ فقالت امي بتهكم :
ـ (صخام . انت حتى عالية نصيف ما تعرفها ؟؟ ) .
ليلة امس .. دخلت الى الكوكل مجبرا ، وكتبت في محرّك البحث ... (عالية نصيّف ) ، فظهرت لي وبسرعة البرق آلاف الاخبار والتصريحات ، والصور ، وروابط الافلام ، فخجلت من نفسي .. وطاطأت رأسي حتى لمس سطح المنضدة .. وتساءلت ؟ اين اعيش انا ؟ هل هذه المخلوقة تحضى بكل هذا الاهتمام ولا اعرفها ؟
اذن هي عضوة مجلس نواب ، ولديها تصريحات مثيرة للجدل ، وتتصدّر عناوين الاخبار دائما ، ولكنها كانت موظفة بسيطة كما تشير الكتابات ، ثم ابتسم لها الحظ ، واصبحت بين ليلة وضحاها سياسية مشهورة ، ولكنها لاتملك سحر عيون (سمر) ، ولاتملك طول (ايليف ) ، ولا بياض (نيهان ) ، بل انها تشبه جدتي ، فوجهها لايسر الناظر ، ولكن لديها حمايات ، وسيارة مصفحة ، ثم لماذا قارنتني خطيبتي بها ؟
منذ لقائي الاخير بخطيبتي وانا اكره (عالية نصيف ) ، بت استقطع من وقتي الذي اقضيه في مشاهدة المسلسلات ساعة او اكثر لمتابعة اخبارها ، والاستماع لتصريحاتها ، ولكن بعد مضي اسبوعين ، بدأت اشعر بالتعاسة ، وانني لم اعد سعيدا كما السابق ، وبات نومي متقطعا وقلقا ، حتى ان امي لاحظت اصفرار وجهي ، وسالتني هل اعاني من شيء ، وحين الحّت اجبتها بدون وعي .. عالية نصيف !! فصرخت بوجهي ( هاي شبيك يمه .. صخام نصيف شعليها ؟؟ ) ، فأعتذرت من امي وقلتُ لها بأني مرهق هذه الايام ، فاطرقتْ امي بحزن وتمتمت (يمه مو جنت مثل الوردة .. شجاك هاليومين .. انحسدت .. ؟؟ ) .
كنتُ يوميا اشاهد (نيهان ) تسير بغنج ، وهي تتبضعُ من محال كأنها بنيت في الخيال ، ثم تسير في شوارع كأنها رصفت بالمرمر ، وارصفة طليت بعناية فائقة ، ثم تجلس في حديقةٍ كأنها قطعة من جنة الله الموعودة ، واشاهد (كمال) وهو يركب سيارته الفارهة ، ويرتدي ملابسه الفاخرة ويعانق حبيبته في الشارع ، دون حسيب ورقيب ، كنت اشعر بالسعادة مع ابطالي المفضّلين ، واقاسمهم رفاهيتهم ، وانسانيتهم ، وحين اتابع (اخبار عالية نصيف ) ، اشعر بالخراب يلوح في عينيها ، وفي نبرات صوتها ، كنت افزع من خطابات التهديد والوعيد التي تطلقها ، كنت اخبيء راسي بين كفّيّ ، وانظر الى باب غرفتي ، خائفا مرتعبا ، وانهض لأتأكد من اغلاقه بالمفتاح ، كم تمنيت لو اني وضعت قفلا ثانيا ، وثالثا ورابعا .
مع كل تقرير لعالية نصيّف تظهر وجوه لا تعرف الرحمة طريقا لتقاطيعها ، ينظرون اليّ من خلف الشاشة بأشمئزاز ، بطونهم منتفخة ، ووجوههم صارمة ، اشبه برجال عصابات في مسلسلٍ مكسيكي .. ومع دخولي الاسبوع الثالث لمحنتي ، لم يعد الامر محتملا .. ، فقررت منذ الصباح الباكر ان اعود الى سابق ايامي ، اتابع مسلسلاتي المفضلة ، وانسى تماما امر (عالية نصيف ) ، حتى خطيبتي ، قررت ُ ان انهي امرها ، واتفقت مع والدتي ، فوافقت على مضض .
بعد اسبوع ، كنتُ اترنّم بأغنية صباحية ، وانا ادلف الى الوزارة التي اعمل بها ، وعند المدخل ، تصايح رجال الشرطة ، افسحوا المجال للموكب ، ووقفتْ امام المدخل سيارات سوداء مضللة ، ونزل منها رجال مدججون بالسلاح ، واشاروا لي بالابتعاد ، فسألت احد رجال الشرطة ، عن هذا المسؤول الذي استنفر حماية الوزارة ، فقال لي .. انها (عالية نصيف ) .
فهرولت بدون وعيٍ مني الى داخل الوزارة .. كي لا تراني ، كنت على يقين من انها ستصرخ بي إن رأتني .. ( ها .. ولك !! آنه ليش ماعاجبتك ؟ ) ..
رياض الركابي
التعليقات
|
أحسنت أستاذ رياض.. فأنت الى جانب كونك أديبا مبدعا.. فإنك هنا كاتب مقالي بإمتياز.. وتحديدا في المقالة الفنية.. التي أجدت في سردها وتتبع إرتقائها. فهي المقالة التي لامست خطوطها شكل القصة القصيرة.. أو الإقصوصة حسب البعض.. والتي يتعلق بنصها القارئ حتى كلمتها الأخيرة. لكنك لم تخبر عن لميس في المتن.. ربما ميزت مكانتها في العنوان. تحياتي وتقديري.. بدوام التألق. |
|
|
الله عليك ابو محمد .. جميل جدا وعاشت ايدك كنت اعرف من زمان انك في القصة والمقال اكثر ابداعا تحياتي اخي الكبير والغالي اخوك حيدر عزيز عوده الاوسي |
|