5 -6 - نشأة النحو العربي ، والمدرستان الكوفية والبصرية
الحلقة الخامسة من ست حلقات
أضواء خاطفة عن ابن السكيت والمبرد وثعلب...
في هذه الحلقات عن المدخل لـ " نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي " لا نريد الخوض في المسائل النحوية ، والخلاف الدقيق بين المدرستين ، وإبداء وجهة نظرنا الخاصة فيما دهبوا إليه أصحابهما ، وفلسفة التوجهات الخلافية والتوافقية بينهما تركناها للكتاب مع وجهة نظرنا ورأينا والترجيح المأمول ما في عقلنا حول العقول ، وإنما الآن كعادتنا في بقية الحلقات نروم إلقاء نظرة على جهود عباقرة العرب وأفذاذهم وتفانيهم في سبيل إعلاء رفعة لغتنا الجميلة ، لأن اللغة هي وجه الأمة المعبر عن حضارتها وثقافتها وشموخها! فالموضوع ثقافي بنفحات علمية نحوية لكي لا يتجشم العناء القارئ الكريم ، وبتصرف غير قليل .
لما عاد المازني شيخ البصريين بعد أن سأله الخليفة الواثق عن سرِّ(رجلاً) في غناء جاريته ، ظهر شيخ الكوفيين أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الملقب (ابن السكيت )، كان معلماً للصبيان في قرية (دورق) بخوزستان ، ويرجح بروكلمان أنه آرامي الأصل ، والرجل درس على الفرّاء ، وأبي عمرو الشيباني ، وابن الأعرابي من الكوفيين ، كما أخذ عن الأصمعي وابن عبيد الأترم من البصريين ، وألتقط اللغة من أفواه الأعراب (104). وكانت مصنفاته الكثيرة مضرب المثل في الجودة والإتقان والثقة ، وقيل ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل (إصلاح المنطق) ،وعرف عنه إمام بنحو الكوفيين ، وعلم القرآن واللغة والشعر ، راوية ثقة ، وقد عدو علم الكوفيين منتهياً إليه وإلى ثعلب(105) ، وقال عنه ثعلب : " أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الإعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت " (106) ، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله ، وبعد تأديب هذا غدر به المتوكل وقتله على سبب لا يعقله عاقل ، وتناقله المؤرخون ، إذ أمره " بشتم رجل من قريش ، فلم يفعل، وأمر القرشي أن ينال منه ، فنال منه ، وأجابه يعقوب
، فلما أجابه ، قال له المتوكل : أمرتك أن تفعل ، فلم تفعل ، فلما شتمك فعلت ، وأمر بضربه ،فحمل من عنده صريعاً مقتولاً (244 هـ / 858 م) ، ووجه المتوكل من الغد إلى بني يعقوب عشرة آلاف درهم ديته" (107) .
هذا هو قضاء وقدر ابن السكيت أمام المتوكل ، لماذا يشتم رجلاً لم يشتمه ؟!
وما الحكمة في هذا الشتم المبتذل ؟! لولا الأمر دّبر بليل - إن صحت رواية ابن الأنباري الكبير! -ولما نال هذا القرشي منه ، من المروءة أن يرد عليه ، بل يرد الصاع صاعين ، لإمتناع السكيت عن سبه أولاً ، ولرد الشتيمة بالمثل ثانياً ، فما بال المتوكل يقتله صريعاً ، وهو الذي أمره بتأديب (معتزه) ، وأين وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟! وعلم ذلك وحسابه عند ربك ، وهنالك رواية أخرى ينقلها (السيوطي) في ( بغية وعاته) (108) ، عكفنا عن نقلها لما تتضمن من دوافع طائفية ، لا تصلح في هذا العصر المفترض أن نكون أكثر وعياً وإنسانية - إن صحت الرواية أيضاً - .
والحقيقة منذ عهد الواثق وقدوم المازني إلى بغداد كما ذكرنا ، أحدث تحولاً هاماً في تاريخ المدرستين من حيث التنافس على بغداد وقصورها ، وتحقيق الأمتيازات ، فقد بدأت الكفة تميل الآن إلى جهة البصريين ، وأصبحت ثقة بغداد تزداد بهم على حساب الكوفيين ، وخصوصاً بعد وفاة ابن الإعرابي (231 هـ / 846م ) ، ومقتل ابن السكيت ، إذ أخذ الخلفاء يستدعون البصريين للتحكيم في المسائل النحوية واللغوية ، وممن استدعي (المبرد) البصري إلى (سر من رأى) سامراء حيث مقر الخلافة حين ذاك ، ثم إلى بغداد من قبل صاحب شرطتها ، ولكن اقتراب المازني في أرائه من الكوفيين ، واقتربَ الكوفيون أيضاَ منه لكثرة مادار من مناظرات جعلت كل فريق يتمعن ويتبصر ويعيد النظر في آراء الفريق الآخر (109) .
والمبر د هوأبو العباس محمد بن يزيد ينتهي نسبه إلى الأزد من ثمالة (211 هـ - 285 هـ / 826 - 898م ) ، إمام البصريين في عصره ، تلميذ أبي عثمان المازني ، وأبي عمر 1الجرمي وأخذ عن أبي عثمان الجاحظ ، وأبي حاتم السجستاني , وحضر مجالسه ونهل من علمه كبار علماء النحو واللغة والأدب أمثال الزجاج والصولي ونفطويه وابن السراج والأخفش الأصغر وأبي الطيب الوشاء ، وابن المعتز العباسي وغيرهم.
تنافس هو وثعلب إمام الكوفيين الآتي ذكره في عصرهما ، وقد سئل النحوي الشهير (أبو بكر بن السراج ) ، صاحب كتاب (الأصول في النحو ) ، أيهما أعلم المبرد أم ثعلب؟ ، فأجاب " ما أقول في رجلين العالم بينهما " (110).
وللمبرد عدة مؤلفات أشهرها : ( الكامل في اللغة والأدب) ، وهو من أشهر كتب أدب العرب على مدى تاريخهم ، عدد مجلداته وصلت ثمانية في بعض الطبعات ، مدحه ابن الرومي بقصيدة طويلة "98" بيتاً :
أضحت الأزد وأضحى بينها *** جبلاً وهي رعانٌ وريود
ويميناً إنك المرء الذي *** *حبه عندي سواء والسجود
والبحتري الأشهر في عصره والمتنفذ - وهو طبعاً من معاصريهما - داعيا لأخذ العلم منه ، فهوالكوكب المسعود:
نال ما نال الأميرُ محمد *** إلا بيُمن محمـد بـــــن يزيــدِ
وبنو ثمالةَ أنجمٌ مسعودة** فعليك ضوءُ الكوكب المسعودِ
واضح محمد بن يزيد وهو من ثمالة يعني به المبرد ، ولابد أنه كان يدرّس الكثير من أبناء الملوك ، وأكرر مرة أخرى هذا المبرد الكبير هو الذي قبل يد دعبل ، ونقل عنه رواية رائعة ، باعتراف ابن المعتز العباسي وهو أيضاٍ ابن خليفة وشاعر وناقد كبير عاصرهما .
وكان (ثعلب ) الكوفي موازياً له في العلم والشهرة والمكانة ، ثعلب أيضاً كنيته أبو العباس ، وهو أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني إمام الكوفيين في النحو واللغة ( 200 هـ - 291هـ /815م - 903م) ، ولد في بغداد ونشأ وتوفي فيها أبان خلافة المكتفي ، ولكن مدرسته النحوية كوفية خالصة .
والدكتور المخزومي يقول : " أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ثالث ثلاثة قامت على أعمالم مدرسة الكوفة النحوية ، وهو بغدادي المولد والمنشأ ، وكان شيبانياً بالولاء " (111) ، أما الآخران الكسائي والفراء. وأخذ ثعلب عن محمد بن زياد الإعرابي، وعلي بن المغيرة الأثرم ، ومسلمة بن عاصم ، ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم ، وأخذ عنه أبو الحسن علي بن سليمان (الأخفش الأصغر) ، وابن عرفة وابن الأنباري ، وكان ثعلب ثقة ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب، ورواية الشعر القديم ، قال عنه المبرد " أعلم الكوفيين ثعلب " (112) ، مقدماً على الشيوخ وهو حدث ، وعلى ما يبدو مما ذكر تستشف ، إنه غير ميال للمناقشة والتحاور والمجادلة مع المبرد ، ولكنه خطيب في المحاضرات بشكل عجيب ، ربما بديهته ،وكثرة معلوماته ، لا تساعدانه على الرد السريع ، ولكنه سريع الحفظ خطيب من الطراز الأول ، فهو يصلح للمحاضرات ، لا الأخذ والرد السريع - والله أعلم- .
ويحدث التاريخ : إنّ أبا جعفر أحمد ابن إسحاق البهلولي القاضي الأنباري و أخاه البهلول " دخلا مدينة السلام في سنة خمس وخمسين و مائتين ، فدارا على الخلق يوم الجمعة، فوقفا على حلقة فيها رجل يتلهب ذكاءً ، ويجيب على كلّ ما يسأل عنه من مسائل القرآن والنحو والغريب وابيات المعاني، فقلنا من هذا ؟ فقالوا : أحمد بن يحيى ثعلب " (113) ، إذاً كان ثعلب يتلهب ذكاءً ، ولما مات المبرد ، وقد أوردنا سنة وفاته قبل ثعلب ، وقف رجل في حلقة ثعلب وأنشد :
بيتٌ من الآدابِ أصبح نصفهُ***خرباً وباقي نصفه فسيخربُ
ماتَ المبردُ وانقضتْ أيامهُ**ومـع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظهُ*** إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ (114)
يتبين مدى أهمية اللغة إبان تطور الحضارة العربية ، وعندما تزدهر الأمة تزدهر في جميع أتجاهاتها ، ثم ركز على عجز البيت الثالث ، والتمييز بين الكلام المكتوب ولفظ الكلام المنطوق حيث يتجسد في هيئة نبرات وموجات وترددات وتعبيرات وإشارات وانفعالات ، فكأن الشاعر كان يتوسم عصرنا لتسجيل صوته ، وتصوير حلقته ، فالحق معه ، إذ يقول (إذ كانت الألفاظ فيما تكتب)...!!
بالرغم من قوة حفظه المشهور - وأقصد ثعلباً - كان يأخذ الكلام على عدة وجوه ، بارعاً في التعليل يذكر بلسانه : " كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه ، فقال لي يوماً ، وقد قـُرئ عليه :
ما تنقمُ الحربُ العوان مني***بازلُ عامين صغيرٌ سنـّي
كيف تقول : بازلُ أو بازلَ ؟
فقلتُ : أتقول لي هذا قي العربية؟ إنما أقصدك لغير هذا ، يروى بالرفع على الآستئناف ، والنصب على الحال ، والخفض على الأتباع فأستحيا وأمسك " (115) .
وهذه الحادثة التي وقعت بين ثعلب الكوفي مدرسة ً، والرياشي البصري سبقت سنة (259 هـ / 871م) . لأن أبا القضل عباس الرياشي ، وكان أسود قتل في ثورة الزنج في السنة المذكورة سابقاً ، وهو من جذام ، له ( كتاب الخيل) و (كتاب الأبل) ، وهذا (ثعلب) كان مقتراً على نفسه ،فجمع ثروة ، وله عدة مؤلفات : المصون في النحو ، معاني القرآن ، اختلاف النحويين ، معاني الشعر ....نكتفي بهذا القدر الذي يعفيك من الضجر ، ويريحني من السهر ، ولله من قبل ومن بعد الأمر !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(104) راجع : (نزهة الألباء ..) : ص ، و (مراتب النحويين) : ص ، و (وفيات الأعيان) : ج ص (بولاق ) ، (الدراسات اللغوية...) د. محمد حسين آل ياسين ( مكتبة الحياة - 1980م - بيروت) ، كلها م . س .
(105) راجع (آل ياسين) : المصدر السابق .
(106) (مراتب النحويين) : المصدر السابق.
(107) ( نزهة الألباء) : ص م . س .
(108) (بغية الوعاة ) : السيوطي عبد الرحمن ج ص مطبعة عيسى الحلبي - القاهرة .
(109)(المدرسة البغدادية ) : ص - م . س.
(110) ( إنباه الرواة)ج ص م . س .
(111) (مدرسة الكوفة ..) : د. مهدي المخزومي ط2 - 1958 - ط 2 - مصر.
(112) (نزهة الألباء) : ص - م. س .
(113) (طبقات النحويين واللغويين) : ص م. س . ترجمة محمد بن قادم.
(114) (إنباه الرواة) : ج ص م . س.
(115) (بغية الوعاة) : ج ص م. س .
كريم مرزة الأسدي
التعليقات