الجدل الأخير
-أيها البطل في رأي نفسه، لمَ لا تُلقي بسيفك وتنفض يديك؟ فوَرَبَّك كانت هزيمة مُهينة أعمتك غبرتها .. لا تحدّثني بعد الْيَوْمَ عن حرب نزيهة، ها انّي أحذّرك!
_ لست وحدك، لست وحدك، كرر مَن يخبو وميض مُقلته ويتّضح أو يتلوّن على صفحة زجاج شباك الباص.
أحسّ الرجل بالبنت الجالسة الى جواره تتحاشاه بنصف وجهها فحاول الاعتدال ليقيم ظهره قليلاً، لكن أنّى لقواه يأمرها فتستجيب؟ لذا لم ينتج عن محاولته الجبارة تلك سوى نحنحة بائسة.
يا للغرابة، أسرّ لنفسه وهو يلمح يد البنت الفتيّة تداعب أصابعها عصا عرفها يوما، وفكّر، أزمن يشيخ فيه الناس مُذ تتغوّطهم الأمهات فيأتون الدنيا وهم يتعكزون في عز شبابهم؟ ملعون هذا العصر يا إلهي، قال لنفسه، وأدار صوب الشباك راْسه مخافة احراج البنت .. هنا التقت عيناه بعيون الشبح الذي وجده يبتسم برعونة فأعلن صراحة:
_ ملعون هذا الزمن كما ترى والذريّة عجائز! .. الذريّة شيوخ وعجائز! .. لا تحدثني عن نزاهة الحرب قلت لك ..
لكن صاحب العيون اختفى فجأة .. أحس الرجل بوثبة البنت التي أخذت تتكلم مع شاب يحمل طفلا، نظر ليجد أيديهما تتشابك لاستبدال الطفل بالعصا .. هي واقفة الآن تحمل الطفل رغم المقاعد الفارغة والشاب هو من يجلس الى جنبه!
يا للوقاحة قال لنفسه، حين ربّت الشاب على كتفه وأخرج منديلا مسح له وجهه وفمه! كيف يتجرأ الغرباء على انتهاك خصوصيتي بهذا الشكل؟ يا للعار!
_ لست وحدك من خاب ظنه، جاءه الصوت ثانية .. التفت فرأى عين واحدة تحدق به وأخريات تتخفّى بين يافطات المحال التجارية والعربات المارقة والمارين بسرعة فوق الرصيف .. تابع الصّوت، قلتَ يوماً " لو نشب حريق بالشارع الآخر سأتعاطف معهم ولكن لا أمدُّ يداً لإطفاء "، هل تتذكر؟
_ كان الجميع قد تنصّل ..
_ إذن ! ..
_ الجميع غدر وهرب وتبيّن أنّهم ...
_ أنّهم مثلك لم يثبت منهم أحد، قاطعه الصوت ضاحكاً ..
أسرّ الرجل للشبح، وهو يلصق وجهه بزجاج شباك الباص، بأن الشاب مزعج جدا ووقح بلا حُدُود لا يكف عن تعديل ياقة قميصي، وقد مسح نظارتي مرتين و أنفي أيضا .. أما البنت التي تقف فوق رأسينا فأكثر منه سخفا، آاااه لو كنت أعرف لغتهم لربّيتهم أمامك، قال بصوت أراده سرا .. لم لا تجلسين هنا هنا ( يعدد المقاعد الفارغة ) ويجلس هذا _ الدونكي _( مشيراً للشاب ) جنبك هنا أو هناك؟
إبتسمت له البنت الواقفة والشاب قهقه، بينما ناضل الطفل باسطاً يديه على اتساعهما لينزل إليه، ولما وجد بين ذراعي الأم مقاومة، أخذ يصرخ وينطّ بوحشية.
_ لا تشتتنا أكثر، بعيداً عن الذين أحببت أخذتك السنون يا صاحبي، من يتصور أن ينتهي من كانت تزلزل خطاباته ردهات الطلبة مطالباً بالتغيير ولا يرتضي حتى بزرقة السماء ولون العشب ومواقيت الفصول؟ لا شيء، وجدت نفسك نهاية المطاف لا شيء، هل جئت لتعترف، أم انك ذاهب لتموت؟ سأل صاحب العيون.
_ لو كنت أدري لأخبرتك .. كانت أحلام أجيال على كل حال .. والأكيد، أو الذي أصبح لي مؤكدا، أن مدن ما كنّا نسميه الوطن انسلخت فيها إنسانية ساكنيها، هواءها التراب و ماءها المرض، غناءها العويل وحدائقها المزابل، كل شبر منها قبر وكل بيت مقبرة، أموات يتناسلون .. فماذا يهمك لو اعترفت أو لاقيت حَتْفِي بصمت؟
مَاذَا؟ أحسّ بنفسه يُنتزٓع من مكانه بينما الباص متوقف .. البنت لا تحمل الطفل لكن صوته بكاءه من مكان قريب لا ينقطع .. يد تناوشه العكاز وغيرها تشق طريقها بين إبطيه لتوقفه أو تسنده، هو الآن في موكب للنزول وإمارات الاحراج تحف بالوجوه من حوله .. ماذا يجري؟
_ لننزل يا بابا، تقول له البنت .. وصلنا لننزل .
_ نعم لننزل، لم لا ؟ وجد نفسه يوافق الرجاء.
قرب باب النزول أوقفوه لحظات، اترتجت صفيحة تحته ووجد ثقله يهبط مُسندا بالبنت والشاب كأنه احد التماثيل الفرعونية مجتثاً من نعشه بالجيزة مأخوذا الى المتحف الوطني مباشرة ليعرض أمام الخلق.
_ ننزل نعم .. نزلنا، لكن من أنتم وأين تنزلوني؟ قاومهم كما يَلِيق .. ماذا تريدون بالضبط؟
تطاول بناء عظيم أمامه ومداخل مشجّرة وأرضيّة مرصوفة بحجر بني لامع. كان يخطو خطوات بطيئة حذرة مخافة الانزلاق .. أين نحن؟ تساءل ..
_ سيعتنون بك هنا يا بابا بشكل جيد.
_ وأين أمك اذا كنت ابنتي؟ .. ها؟
_ أرجوك، هل عدنا لسيرة ماما الله يرحمها؟ هنا سنزورك كل أسبوع لنطمئن، وسيعتنون بك أفضل منّا .
_ رحلت امّك هي الأخرى في غفلة منّا إذن ؟ مَن يعتني بمَن في عالم يتنكر الجميع فيه من الجميع؟ ..
كان الطفل يمسك بيد الشاب، أراد سؤالهم كيف تسنّى للطفل المشي بالعجالة وقد كان محمولا قبل لحظات؟ لكنه أيقن بأن مزاج الوجوه لا يُرحِب بأسئلته لِذَا واكب المسيرة نحو المبنى الغريب الهائل ..
وجد نفسه بعد لحظات محاطا بجدران من زجاج تحدق به عيون صاحبه القديم بصمت، لا يدري لماذا تقبِّله البنت وتبكي بينما يواسيها ذلك الشاب؟ الطفل أيضا طبع قبله براحة يده ونفخها صوبه حين كانوا يبتعدون ويتركوه مع حيرته .. سيبات الليلة بين جُدران يبحث عن وجه يعرفه، وأنا في شكّ أن يتعرّف على شيء!
وائل مهدي محمد
التعليقات