بوابة الحرب التي مزقت وحدة أرض التركمان
تلعفر خائفة من حرب ما بعد «داعش» الذي ضرب نسيجها الطائفي
نينوى -
ينشغل كريم قاسم، الشاب التركماني الذي يعيش في ضواحي مدينة كربلاء جنوب العراق، في تجهيز آخر متطلبات «رحلة الخلاص» كما يسميها، والتي يأمل بأن تنتهي به إلى ألمانيا، غير مكترث ببقية أفراد عائلته الذين يمضون جُلّ وقتهم أمام شاشة التلفاز لمتابعة عمليات تحرير نينوى: «ليست هنالك نهاية... الحرب هنا لها أوجه متعددة وستستمر عقوداً».
قاسم الذي نزح من تلعفر مع عائلته في حزيران (يونيو) 2014 إلى كربلاء، كان يتحدث عبر السكايب مع صديقه الذي وصل إلى ألمانيا بعد رحلة خطرة عبر خلالها حدود أربع دول، نهض من مكانه سريعاً بعد أن تلقى اتصالاً من شقيقه الأصغر محمد الذي ينتمي إلى أحد فصائل «الحشد الشعبي»، والتي تقاتل قرب تلعفر لاستعادتها من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
حوالى 200 ألف تركماني شيعي آخر نزحوا في التاريخ ذاته وخلال ساعات متجهين جنوباً تاركين المدينة التي ولدوا فيها وتقاسموا أزقتها متعايشين مع نظرائهم في القومية دون المذهب طوال قرون.
خلال الاتصال، هرب قاسم بوجهه بعيداً من عائلته محاولاً إخفاء دموعه، وحاول مراراً إبعاد الهاتف من وجهه ليمنع شقيقه من سماع دوي الكلمات التي اختنقت في حنجرته «قد لا أراه أبداً، قد لا يعود من هناك».
يُرجِع قاسم قراره بالرحيل حتى قبل حسم معركة تلعفر واتضاح مسار الأحداث في الموصل، إلى غياب أي أمل بالمستقبل، مستذكراً فقدان اثنين من أبناء عمومته خلال اجتياح التنظيم المدينةَ «26 سنة من عمري تلاشت بين سنوات الحصار والفقر وسنوات الحرب والخطف... آخرون خسروا حياتهم في حرب عبثية تبدو بلا نهاية، ويسألونني لماذا تريد الرحيل؟».
يوافقه الرأي عباس محمد، الذي يعيش منذ عامين ونصف العام في مواقع إيواء موقتة في جنوب العراق، في انتظار عودة قد تتطلب سنوات، ويقول: «قبل سيطرة داعش على تلعفر لم نكن أفضل حالاً، فعلى مدى عشر سنوات كانت التفجيرات تتوالى كما عمليات القتل على الهوية... كنا في سجنٍ كبيرٍ، والوصول إلى الموصل القريبة كان مغامرة قد تدفع حياتك ثمناً لها».
يؤكد محمد أن الحرب الطائفية حولت الجميع إلى ضحايا محتملين للجماعات المتطرفة «كان التحرك في أي تجاه محفوفاً بالأخطار في محيط يحكمه متطرفون وسط غياب سلطة الدولة، بل إن بعض أحياء تلعفر حرمت علينا بعد أن انقسمت المدينة مذهبياً».
يضيف وهو يعرض عبر هاتفه صور أقربائه الذين قتلوا أو فُقدوا قبل أن يغالبه البكاء «هذا والدي، خلال هجوم داعش رفض أنْ نغادر المدينة كسائر الناس... كنا عائلة كبيرة تضم 15 فرداً بينهم سبع فتيات ونسوة، لم تكن هناك وسيلة نقل متاحة للجميع وكان ترك المدينة مشياً أمراً شاقاً وخطيراً... طلب والدي مني ومن اثنين من إخوتي أن نغادر وحدنا لكي لا نكون هدفاً للمسلحين، معتقداً أن الأطفال والنساء في أمان ولن يتعرض لهم أحد».
فجر ذلك اليوم غادر محمد تلعفر، ووصل قبيل الظهر وعبر طرقاً جانبية خطرة إلى سنجار القريبة حيث تحكم البيشمركة الكردية، ليتصل من هناك بعائلته «ردت والدتي على هاتف والدي، قالت وهي تبكي أن المسلحين هاجموهم وأخذوا والدي وجدي... بقينا على اتصال مع والدتي حتى اليوم التالي حيث بدأ شخص غريب يرد على الهاتف ويخبرنا أن العائلة محتجزة عنده».
طوال الأسابيع والأشهر اللاحقة ظل الهاتف مغلقاً «إلى اليوم، لا نعرف عنهم شيئاً... آمل بأن يكونوا أحياء».
وثقت مؤسسة إنقاذ التركمان، التي تتابع ملف ضحايا «داعش» من قتلى ومخطوفين، نحو 1200 حالة اختطاف لمواطنين تركمان جُلهم من شيعة تلعفر على يد تنظيم «داعش» حتى أواخر نيسان (أبريل) 2016، بينهم 120 طفلاً ونحو 450 امرأة وفتاة.
ينتشر معظم النازحين الشيعة الذين فروا من تلعفر وقرى سهل نينوى، في الحسينيات على طريق النجف - كربلاء، وفي أماكن معدة أصلاً لاستراحة زوار المراقد الدينية، ويستقر آخرون في مخيمات أقيمت على أبواب المدينتين، ويقيم البعض في ناحية الحيدرية (40 كم غرب النجف) وتنتشر حوالى ألف عائلة في مخيم السيدة رقية، فيما فضل عدد صغير منهم الاستقرار في بيوت مستأجرة داخل المدن في المحافظات الجنوبية.
المختطفون إلى حين
يتحدث علي جميل، النازح التركماني (40 عاماً)، وهو يفترش سجادة قديمة في غرفة صغيرة بضواحي مدينة النجف، عن الساعات الأخيرة لعائلة أخيه المؤلفة من 11 فرداً، والتي وقعت أسيرة لدى التنظيم أثناء محاولتها مغادرة سنجار والتوجه إلى جنوب البلاد: «شكلنا قافلة مكونة من 12 سيارة، قصدنا ناحية ربيعة تاركين سنجار التي كانت مهددة بالسقوط بعد تلعفر، لكننا سلكنا الطريق الخاطئ ووجدنا أنفسنا في ناحية عوينات... اكتشفنا ذلك حين ظهرت لنا الرايات السود، حاولت السيارات التي كانت تتقدم القافلة الرجوع إلا أنها تعرضت لسيل من النيران ما أجبرها على التوقف في حين تمكنت السيارات المتأخرة من الرجوع وكانت سيارتي بينها».
وقع البعض في قبضة «داعش»، وبينهم عائلة شقيق جميل التي كانت تضم ست نساء وخمسة رجال، وانقطع الاتصال معهم سريعاً.
وتشير معلومات مؤسسة إنقاذ التركمان، إلى أن الرجال المخطوفين بغالبيتهم (أكثر من 600 شخص) أعدموا في عمليات قتل جماعية، لكن غالبية النساء والأطفال على قيد الحياة، بينهم من نقل إلى مدينة الرقة السورية، بينما تمكن عدد لا يتجاوز أصابع اليد من الفرار، أو تمكنت عوائلهم من استردادهم مقابل مبالغ مالية وبجهود فردية.
كما وثقت المؤسسة ذاتها، بالأسماء مقتل 416 تركمانياً في نينوى وإصابة 746 آخرين على يد «داعش» في أحداث وقعت في مجمل محافظة نينوى، فبعضهم قُتل قبيل معارك اقتحام تلعفر، عندما هاجم «داعش» المدينة بالهاونات والصواريخ، والآخر قُتل في مواجهات مباشرة مع التنظيم، والبعض الآخر قتل أثناء النزوح من المدينة وبقية المناطق التركمانية الشيعية التي فرّ منها أكثر من 200 ألف تركماني وحوالى 400 إلف إيزيدي، وفق نواب ومنظمات مجتمع مدني.
الملف المنسي
يصف ناشطون تركمان ملف المختطفات التركمانيات بـ «المأساة المنسية»، مشيرين إلى صعوبة التعاطي مع قضيتهن حيث يفضل المجتمع تناسي وجودهن فيما لا تقبل عوائل المختطفات الإفصاح عن أية معلومات عنهن، بل ويعتبرن مجرد الحديث عن هذا الموضوع «وصمة عار»، وفق عباس المولى، أحد الناشطين التركمان.
المولى نبه إلى خطورة ذلك الموقف على فرص تحرير المختطفات وعلى مستقبلهن، ويلفت إلى أن عوائل المختطفات لم تتلقَّ أي دعمٍ وطني أو دولي لتحرير بناتهن كما حدث مع الإيزيديات، ومع ذلك تمكنت بعض التركمانيات من الفرار، ووصلن إلى عوائلهن التي رفضت تقديم أية معلومات عنهن.
ويرى المولى ضرورة توثيق كل ما يتعلق بالمختطفات وتوفير الدعم من أجل تحريرهن، وتأسيس مراكز لتأهيلهن بعد التحرير، وتقديم المتورطين في حجزهن واستعبادهن إلى المحاكم الدولية «هكذا نحقق العدالة ونعيد الاعتبار إلى الضحايا وليس بكتمان قصصهن».
هيمان رمزي رئيسة منظمة «تولاي» لشؤون التركمان، التي وثقت أسماء 850 مختطفاً ومختطفة من التركمان في نينوى، قالت أن العدد أكبر من ذلك، لكن المنظمة تواجه صعوبة بالغة في استحصال المعلومات لعدم تعاون عوائل المختطفات، مشيرة إلى توثيق حالات قتل جماعي لتسع نساء تركمانيات بعد اغتصابهن وقتل أزواجهن في قرية «قرة قوين» على أطراف الموصل، وإلى قصص مأسوية كثيرة يفضل عوائل الضحايا حبسها في صدورهم لأنها «تزيد آلامهم» في مجتمع تحكمه قيم عشائرية.
رمزي أشارت إلى حالات هروب من معتقلات التنظيم «اطلعنا على أكثر من حالة، بينها تمكن 18 فتاة وامرأة من الهرب، إلا أن غالبهيتن توفين على الطريق، وبينهن امرأة حامل توفيت مع جنينها... لم تصل سوى خمس منهن، اثنتان موجودتانن في كركوك، واثنتان في سفرة علاج نفسي خارج العراق».
ولفتت إلى عدم تبني أية جهة قضية المختطفات التركمانيات كما حدث مع الإيزيديات رغم تقديم كل المعلومات الموثقة إلى الجهات المعنية في الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان: «طرقنا كل الأبواب لكن من دون جدوى... بل لم تشكل لجنة للتحقيق والبحث الجاد في القضية، لذا هو ملف مجهول رغم كل ما يحمله من مآسٍ».
ناشطة تركمانية فضلت عدم ذكر اسمها، لخصت واقع المختطفات بالقول «لا أمل لهن بالعيش حتى بعد النجاة من داعش».
لم يتوقف التنظيم عند قتل الرجال والمراهقين ممن تجاوزوا الـ13 عاماً، وسبي النساء باعتبارهن «كفرة»، فأعدّ للأطفال مصيراً مشابهاً حين عمد إلى إقحامهم في معسكرات تدريب وتأهيل ديني ونفسي ليكونوا قنابل موقوتة في معاركه.
يقول نائب رئيس الجبهة التركمانية، البرلماني حسن توران، أن التنظيم أدخل في مطلع تموز (يوليو) الماضي 25 طفلاً تركمانياً في معسكر تدريبي، بعد أن كانوا محتجزين في دار الأيتام بالموصل، كما اختطف أربعة من أطفال النائب السابق إيمان محمد يونس السلمان وهي سنّية من تلعفر تم قتلها مع زوجها في تشرين الأول (أكتوبر) 2014 ورُميت جثتاهما في بئر «علو عنتر» شمال تلعفر، حيث كان يقوم التنظيم بإلقاء جثث ضحاياه بداية سيطرته على المدينة. وتمّ لاحقاً إطلاق سراح اثنين من أطفالها ولا يزال مصير الطفلين الآخرين مجهولاً.
السلمان، كانت نائباً في أول دورة للبرلمان العراقي، وتفرغت في ما بعد لإدارة منظمة (الملاك) الإنسانية التي كانت تُعنى بقضايا الأرامل والأيتام، وكان عملها السياسي وترشحها للانتخابات البرلمانية الأخيرة ضمن قائمة (متحدون للإصلاح) عن الجبهة التركمانية العراقية «حجة» كافية لقتلها.
بوابة الاستعباد
مثل آلاف التركمان الذين ينتظرون استعادة تلعفر لمعرفة مصير من اختطفهم التنظيم، فإن آلاف العوائل الإيزيدية يروادها الأمل بعودة حوالى 3500 امرأة وطفل من المختطفين الذين تم سبيهم واستعبادهم، كما يقول المقاتل الإيزيدي خليل سنجاري «تلعفر كانت مركزاً لاعتقال الإيزيديات ومحطة لنقلهم إلى الموصل وإلى الرقة في سورية، وكانت بوابة لاستعبادهم... المئات من سكانها ومن سكان المناطق المجاورة لها كالبعاج شاركوا في كل الجرائم التي حصلت من قتل وسبي ونهب... لقد سببوا لنا جروحاً لن تندمل».
لكن الآمال تتضاءل، فبعد استرجاع نحو ثلث الموصل لم يعثر إلا على عدد صغير من النساء والفتيات، وسيعني عدم العثور عليهن في ما بقي من الموصل ولاحقاً في تلعفر، أن معظم المختطفات قتلن أو أجبرن على الرحيل إلى الرقة ودير الزور السوريتين، وهو ما سيعني تلاشي الآمال بعودة غالبيتهن.
يقول مدير دائرة شؤون الإيزيدية خيري بوزاني، أن 6413 إيزيدياً وإيزيدية تم توثيق خطفهم من جانب التنظيم (بينهم 3543 أنثى و2870 وذكراً) فيما قتل 1293 شخصاً، وتم حتى كانون الأول (ديسمبر) 2016 تحرير2851 من مجموع المختطفين والمختطفات (بينهم 1492 طفلاً وطفلة و1031 امرأة و328 رجلاً) وما زال أكثر من 3562 مختطفاً ومختطفة بيد التنظيم (أكثر من 50 في المئة منهم من النساء) وأن هناك 2745 طفلاً يتيماً من الأب أو الأم أو الاثنين.
وبسبب هجمات «داعش»، اضطر حوالى 360 ألف إيزيدي للنزوح وترك مناطقهم من مجموع 550 ألف إيزيدي في العراق.
ضخامة أرقام الضحايا والمختطفين والمفقودين، تؤشر إلى عمق التحديات التي تُنتظر مواجهتها لإعادة رتق النسيج الاجتماعي الذي مزقه التنظيم، فالإيزيديون لم يعودوا إلى سنجار بعد أكثر من عام على استعادتها، كما مسلمو المدينة من الكرد السنّة والشيعة، وهو أمر قد يتكرر في تلعفر.
يبدي عبدالله داود، وهو نازح تركماني حطَّ الرحال في كركوك، مخاوفه من المستقبل «لا نعرف كيف ستكون ردود فعل التركمان الشيعة الغاضبين من محاولات داعش محو وجودهم في تلعفر، فقد قتل واختطف المئات وأجبر نصف أبناء المدينة على الفرار ليتحولوا إلى نازحين ولاجئين، وجاؤوا بمقاتلين من تركيا والقوقاز ومن الدول العربية صاروا قادة المدينة وتحكموا حتى بمصير سنّة تلعفر».
تمزيق النسيج الاجتماعي
المحامي دلوفان برواري، يلفت إلى التخريب المجتمعي الذي سيخلفه «داعش»، وصعوبة إعادة بناء التعايش «هي عملية غاية في التعقيد، وليس حديثاً خطابيا يلقى في مؤتمر للمصالحة أو مجرد قانون يصدر، والأمر لا يتعلق بموقف أهالي الضحايا فقط».
يضيف «التنظيم أراد قتل فرص التعايش المستقبلية فضرب النسيج الاجتماعي وورط مئات السنّة من أهالي المدينة معه، وفجّر المساجد والحسينيات والمكتبات والمراكز الثقافية كما منازل الشخصيات السياسية والعشائرية».
برواري يرى أن «هناك أشياء لا يمكن استعادتها، وأخرى ستتطلب سنوات طويلة من العمل في بيئة انقسمت مذهبياً وكان التعايش فيها هشاً طوال السنوات الماضية».
يقول الكاتب المهتم بأوضاع الأقليات هَفال محمد: «في سنجار السكان بمعظمهم يعتبرون العودة جنوناً وسط فوضى انتشار التشكيلات المسلحة المختلفة التوجه، فالإيزيديون يخشون من تكرار تعرضهم للإبادة على يد الجماعات المتطرفة التي تختفي في البادية القريبة، والمسلمون يخشون من انتقام متشددي الإيزيدية... الكل خائف من الكل في مشهد سيتكرر في تلعفر في شكل أكثر قسوة».
ويتساءل محمد: «بعد كل التمزيق الذي أحدثه داعش والضحايا الذين سقطوا، كيف يمكن إقناع المتصارعين بالعودة إلى التعايش المشترك بعد طرد التنظيم؟... وكيف يمكن إقناع الشيعي بالعودة من الجنوب إلى تلعفر وأنه لن يُهدد مجدداً، وكيف يمكن إقناع السنّي بأنه لن يكون ضحية لسطوة القوى الشيعية».
جعفر التلعفري
التعليقات