جدار

بينما قاربت الساعة الرابعة مساءا، فتح سعد ابواب مقهى عمه تحسين، التاجر الاغنى في المنطقة حديثا.
و حين اخذ يرصف الابواب جانبا، حرص على تغطية جزء الجدار الامامي الذي سقطت منه احدى قطع الالمنيوم البرتقالي الفاقع من خلال مد الباب الايسر بطريقة غير متناسقه مع نظيره.
و حين اكمل سعد بنجاح اخفاء احجار الجدار القديم التي بدت كأنها كانت تبحث عن شيء من الهواء لتتنفس، بدأ بترتيب المقهى لأستقبال الزبائن. كانت رائحة المكان تتسم بشيء من الرطوبه. للمقهى قاعتان كبيرتان. كلاهما يقصدها الشباب رغم ان احداها قد خصصت للعوائل الذين لم يأتوا بتاتا.
سحب سعد الستائر لإدخال النور للمكان. كانت الستائر بنية اللون، تتخللها خيوط ذهبية على شكل زهور. جدران القاعة الاولى متنوعة النقوش. فأحدها رسم عليه احجار رماديه اللون غطت نصفه و كانت كجدار قديم مهترأ. اخر تناثرت عليه رذاذات ذهبية كأنها مخلفات حفلة اقيمت على سطحه.
و قد تناثرت اللوحات عشوائيا على الجدران الاربع، كان منها وجه جيفارا، اخرى لوجه طفل باكي ثم وجه الموناليزا و امتدت اخيرة على عرض الجدار لمنظر طبيعي كئيب. اما القاعه الاخرى فكانت ذو جدران بألوان براقة و بموديلات متنوعه. الالوان ذاتها امتدت لسقف القاعة كمربعات سقف ثانوي.
توقف كريم، العامل و النادل ايضا، بينما كان يمرر المكنسه يمينا ويسار قرب الباب الايسر عندما دخل شخصين يعتمر كل منهما قبعه كتلك التي يضعها الرسامين. "الله بالخير" رددها كلاهما واجاب بمثيلتها سعد بينما شقا طريقهما نحو الركن الايمن للقاعه الاولى.
جلس هناك قربهم صندوق مشغل اسطوانات ذلك الذي كان ينطرب المنصتين له بينما تنادي ام كلثوم "انت عمري" المحتله، لطولها، كل مساحة الاسطوانة و الممزوجة بشيء من الوشوشه الجميله وخربشة الصوت الدافئة.
و لكن هذه المره كان الصوت واضح جدا، و لم تنادي المغنيه "انت عمري" بل تكلمت بكلمات سريعه و متلعثمه مع مئات الاغاني غيرها التي ملأت الفلاش رام الموضوع خلال فتحه على جانب صندوق الاسطوانة.
وضع كريم اكواب الشاي و صحن السلطه التي اخذا الاثنان يلتهمانها بسرعه. قام احدهم اثناء ذلك بفتح حاسوبه المحمول و بدا كأنه يعمل على شيء مهم، وكان الاخر مشغولا بهاتفه. دخلت لحظتها فتاة في مقتبل العمر. لم تلقي السلام على اي احد، بل انها جلست مباشرة بأقرب طاولة كانت امامها. اخذ كل من الثلاثة يلقي نظراته عليها كأنه واخيرا قد وجد حبيبته المفقوده.
و كانت هي تبادلهم النظرات بين الحين و الاخر. بدا من بعيد بأنها فتاة عملية جدا لولا التدقيق في التفاصيل المتقنه التي تخبر بإنها استغرقت وقت طويل جدا بتنسيقها. فالوان زخارف حذائها شبه الرياضي يتناسب جدا مع حجابها الذي ارتفع من الخلف بطريقه غير طبيعية و مع زخارف ساعتها و اكسسواراتها.
طبقات الكريم الفاتحة على وجهها و حاجبها المرسوم غامقا و عينها التي بدت خضراء اصطناعيا و شفتاها التي تلونت بلون زهري خافت جعلتها تبدو فعلا جميلة طبيعيا.
وضعت امامها كتاب قرب كوب القهوة التي جلبها كريم و الذي يبدو انه الوحيد الذي لم يغرم بها. اخذت عدة صور سيلفي تارة و صور للكتاب، الذي لم تقرأ منه شيئا، قرب القهوة، التي لم تشرب منها شيئا، تاره اخرى. سعد تردد عليها اكثر من مره ليسألها ان كانت تحتاج شيء ما.
لم تكن تجلس وحدها في المره الرابعه التي تراجع فيها بغضب عن السؤال ذاته بينما جلس بقربها احد الشخصين و بدا انهما مستمعين بالحديث جدا. "انه احب اقره و اسمع موسيقى" قالت، اجابها هو "انه احب جيفارا"، اجابت "انه هم"، فقال "احنه متشابهين هواي"، ابتسمت بخجل وكأنها وجدت الحب المنشود.
تبادلا ارقامهم و صفحاتهم في الفيس بوك، رجع لطاولته وارسل لها طلب صداقة مباشرة من خلال حاسوبه الذي كان يقلب به صفحات الفيس بوك طوال الوقت. اما هي فبعد ان وافقت على طلب صداقته، قامت بنشر واحده من تلك الصور التي اخذتها لكتابها والقهوة و كتبت "اعشقك كعشقي لقهوتي وكتابي".
بينما خرجت، جاء كريم ليأخذ كوب قهوتها الممتلئ البارد ليغسله مع استكانات الشاي الاخرى في المغسل الخارجي، عند الباب الخلفي للمقهى. و قد اطل المغسل على مقهى اخر قديم جدا.
يجلس هناك رجل مسن على منضده خشبيه وضعت خارجا امام جدار تكسرت بعض احجاره و ظهرت نصفها كأحجار رماديه من خلف الاسمنت، وقد كان جدار قديم مهترأ.. بدت هذه الاحجار بأنها تتنفس.. تتنفس فعلا!
تمارا العطية
التعليقات
|
مفارقة واقعية... هذا ما باحت به كلماتك من احدى الممارسات البائسة الواقعية في مجتمعنا.. احداث افتقرت الى الترابط بعض الشيء، ومالت الى التفصيل مع مراعاة اللغة العربية من ترقيم، والحالة الاعرابية، والسياق الزمني... تقبلي مروري بودّ |
|