كافيه فيروز
رواية حين تنهض تأخذ من العالم الكثير

قراءة: جاسم الولائي
وحين تستقر تهمس بشغب لذيذ، وتسوط مجتمعنا العربي برمته، نساء ورجالاً، بسياسييه، مثقفيه وإعلامييه، وتجاره من كل مشرب ولون وبضاعة، كذلك تنال بالسخرية والنقد من أداء هذا المجتمع لتقاليد جديدة وهجينة جمعها من هنا وهناك، ومن تكلّفه في الإغداق على هذه التقاليد الجديدة. لذلك كان يجب أن يوفر علي شاكر لشخصيات روايته مكانًا ما، محطة أو مدرج إقلاع وهبوط تنطلق منها وتعود إليها أفكار وذكريات أبطاله وأجزاء مهمة من حياتهم وتواريخهم وسيرهم الذاتية، بأذون مفاجئة من صوت فيروز أو رائحة القهوة وطعمها المرّ أو نغمات آلة البيانو تحت أصابع الفلسطيني وليد، فكان كافيه فيروز الذي يبدأ منه وينتهي إليه كل مشوار من مشاوير الرواية التي لامست حدود المعمورة ونقلت المتلقي إلى أماكن عديدة لم يتوقعها.
عدد الفصول: خمسة فصول موسومة بأسماء شخصيات الرواية وهي كالتالي: نادين (لبنانية)، وليد (فلسطيني)، ربى (سورية)، محمود (مصري)، علي (عراقي).
كافيه فيروز رواية الروائي العراقي علي شاكر التي تبدأ أحداثها في كانون ثاني/يناير عام 2013، بعد عامين من الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين.
وكافيه فيروز هو مبنى حجري بسلالم خارجية تؤدي إلى الطابق الثاني، بنته أسرة فلسطينية على مرتفع يشرف من علي على أحياء عمان القديمة الأصيلة، ينطلق منه صوت فيروز وتفوح منه رائحة البن المحمص.
يقدّم علي شاكر صورة مبكّرة عن الهوية الاجتماعية الجديدة لعمّان بعد اجتذابها لمعظم السياسيين ورجال الأعمال وأصحاب الكفاءات العليا من العرب ومعهم بالطبع رؤوس أموالهم الضخمة، بعد أن حلّ ما حلّ ببلدانهم، وهم بقايا من تلك الشريحة الاجتماعية التي كانت تخدم السلطات الهاربة فتخدم تلك السلطات بدورها مصالحها وتفتح أمامها أبواب الثروة وتكديس المال. تنتسب ثلاث من شخصيات الرواية إلى هذه الشريحة التي شكلتها وفرضتها أنظمة الحكم العربية.
من خلال طُرفة شاعت في الأردن تشير كافيه فيروز إلى أن كل العرب الذين كانت الفنانة جوليا بطرس تناديهم وتستصرخهم بأنشودتها (وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟)، موجودون هناك في عمان! فيما بعد وفي فصولها الباقية تتحدّث الرواية عن المجتمعات العربية بكل طبقاتها في بيروت وفلسطين ومصر ودمشق وبغداد ثم تنطلق الرواية إلى أبعد من ذاك لتصف بالتحليل مهاجري العرب في باريس ولندن وسويسرا والولايات المتحدة وأماكن بعيدة أخرى في العالم مع التركيز على الأماكن والمسارح التي أحيت فيها الفنانة فيروز حفلاتها الفنية.
في فصل نادين وهو الفصل الأول من قوام الرواية المتألّف من خمسة فصول، يصف علي شاكر بصورة موجزة وبعجالة كافيه فيروز ويسجل أول حكم له على المجتمع بأن يرسم انتباهة ذكية في عيني بطلته نادين حين يكسر القشرة الهشة لهذا المجتمع ويصف ظاهرة جديدة وخطيرة في مدينة عمّان، هي ظاهرة انتشار الخادمات الآسيويات، مسلمات وغير مسلمات في شوارع وأسواق المدينة وهن في الغالب من (الفلبين، أندونيسيا وبنغلادش)، ويفصّل في طبيعة تلك النساء وحاله البؤس التي يعشنها بصمت هناك:
(لكن الفتيات الضئيلات العيون والأجسام المستوردات من أصقاع الشرق البعيدة لا يشكين ولا يتذمرن، مجبولات على الحشر والانحشار في الخرائب التي عشن فيها لسنين قبل أن تسنح لهن الفرصة بالهجرة والعمل في بلاد العرب الأثرياء).
في هذا الإيجاز يفصح العمل الروائي عن فكره وقضيته ويفتح الباب على أتليه مضاء واضح الخطوط والسيماء.
يحسب المرء أن هذا الإيجاز في وصف معاناة نسوة عمّان الأسيويات ضئيلات العيون في حشرهن في غرف إقامة ضيقة كصناديق سقوفها قريبة إلى أنوفهن حين يستلقين ليلاً بعد نهار مضنٍ هو نفسه التبرير الذي يردده سادة وسيدات تلك النسوة ردًا على أي اتهام يحمله هذا الوصف بأن الحالة نفسها كن يعشنها في بلدانهن وقد تعودن عليها ومن العبث والترف نقلهن إلى حال أفضل مما كن عليها في بلاد الفقر واللهفة للهجرة إلى أحضان العلب العربية، لكن في الحقيقة أن كافيه فيروز رواية تدين التبرير وحالة المعاناة في آن واحد.
بعد ذلك تتسع دائرة الوصف للمجتمع فتتحدّث الرواية على لسان بطلتها اللبنانية نادين مالكة الكافيه ومؤسِّسته عن اتساع عمّان وازدحامها بالسيّارات وازدياد أعداد أسواقها التجارية الحديثة ومطاعمها المستنسخة من صروح أصيلة في أهم العواصم العربية والأجنبية. وتكشف الرواية عن انتشار وتنوّع عملية الاستنساخ لتشمل الأسواق والماركات والمناسبات والأعياد، وكذلك وسائل الإعلام وأدواته والإعلاميين والإعلاميات، فمن خلال التقرير التلفزيوني الذي كانت تعده أحدى الفضائيات عن مقهاها، تصف نادين المنحدرة من أسرة أرستقراطية من بيروت تقليد مذيعاتها بتكلّف تصرفات المذيعات اللبنانيات اللات يعملن في محطات فضائية يملكها خليجيون أثرياء، وحالة الرعب التي تتلبس العاملين في هذه الوسائل على مصائرهم من أية كلمة عابرة يمكن أن تحمل أكثر من تفسير، بحيث تتراخى يد المصور ويتوقف التصوير فجأة بمجرد ورود كلمة (تراتيل) في وصف أداء فيروز. هاجس الخوف الذي يحتل العقل العربي وينتشر في المجتمعات العربية ويدفعها غريزيًا إلى ازدواجية التفكير والذي تَجسّد في خوف المذيعة وكادرها الفني من كلمة عابرة وردت في تقرير عادي، يصل إلى أعلى درجات الجرأة حين تفكر نادين في داخلها عن كيفية التصرف مع رواد الكافيه من السائحين القادمين من إسرائيل، فتواجه نفسها بالسؤال التقليدي لماذا هي تكره إسرائيل وتحبّ العرب؟ أمجرد لأنها تشترك مع العرب في العِرق؟ ماذا فعل الأسرائيليون؟ احتلوا فلسطين؟ قتلوا الشباب والشيوخ والأطفال؟ أحرقوا المزارع وأقاموا الحواجز؟
ألم يفعل اللبنانيون هذا مع بعضهم البعض، وما زالوا يفعلونه حتى اليوم؟
إما أن نكرة الجميع أو نغفر للجميع دون استثناء.
بطبيعة الحال ليس اللبنانيون فقط يفعلون هذا مع بعضهم البعض ومع غيرهم، تثير هذه الفكرة أكثر من سؤال في رأس أي عربي، ألا ينطبق الأمر على العراقيين والسوريين والمصريين، وعلى الفلسطينيين أنفسهم وكل العرب وما فعله هؤلاء وأولئك فرادى وجمعًا ببعضهم البعض وبالآخرين؟
مع هذه الفكرة تكون بطلة الكافيه أول من ينطلق من مدرج الرواية في رحلة قصيرة إلى بلدة سن الفيل البيروتية لتبدأ في السيرة الذاتية لأسرتها في زمن مبكر جدًا، زمن جدتها لأمها حتى وصولها وحيدة إلى عمّان وبداية مشروعها الفيروزي والتشكيل الأول لعالمها.
كيف وصلت الرواية إلى سن الفيل؟
يخال المرء وهو يمعن في قراءة الرواية أن علي شاكر كان ينسج دورة دموية دقيقة وهائلة امتدت إلى أكثر القرى نأيًا في لبنان وفلسطين وأدق حارات القاهرة ودمشق ودرابين بغداد، وأبعد أرياف سويسرا وأعلى مصحاتها الجبلية، وأقل ميادين قاع باريس أهمية، وقد نجح شاكر في إيصال دماء روايته إلى أبعد مسام الجلد العربي في كل رقعة حلت فيها شخصياته المحورية ومن يحيط بها من أقارب وأصدقاء وعابرين عن طريق أدق الأقنية الحيوية، وحمّل هذه الدماء بمضادات النقد وشخّص أحوال وعلات هذه المجتمعات بوصف ملفت لما تميز به من صدق وذكاء إلى درجة تصل حد هتك أستار هذا المجتمع مزدوج الضمير. ثم في سؤال مفاجئ أو مقطع من غناء أو موسيقى الرحابنة يعود المسافر من مشواره إلى فنجان قهوته.
ما الذي كشفته، عالجته، استعرضته، رثته، لمحت إليه واستفزته، ودققت في وصفه كافيه فيروز؟
الكثير.. ما يخطر وما لا يخطر على بال، وهذه ميزة تُغبط عليها الرواية:
نقلت رواية علي شاكر القارئ إلى أماكن عديدة وطبقات اجتماعية متنوعة بدءًا من الأنساق السياسية العليا القريبة من القرار حتى الطبقات الفقيرة التي لا تملك قوت يومها.
تحدثت عن ظواهر اجتماعية فاقعة منها غياب النعرة الطائفية أو ضعفها في فترة الستينات من خلال شخصية مربيتها المسيحية في طفولتها في بيروت حتى مرحلة متقدمة من عمرها في عمّان. وظاهرة سعي الأسر اللبنانية الكبيرة في تزويج بناتها من أمراء خليجيين وساسة عرب كبار. وكذلك ناقشت الرواية بجرأة ظاهرة البغاء وحياة البغي، بلمسه تلوي عنق القارئ إلى أسباب هذه الظاهرة وتأجيل الحكم والنظرة المتعالية إلى ضحايا هذه المهنة الرثة. وعزلة البيرجوازية المصرية عن الطبقات الاجتماعية الأخرى وما يدور في أغلب البلاد المصرية. انتهازية نجوم الإعلام الذين تصنعهم أنظمة الحكم العربي وبذاءة هؤلاء حين ينتقل أحدهم من سيد يوشك على الرحيل إلى سيد جديد لم تتشكل ملامحه بعد، ولا ينقل من متاعه السابق سوى شعاراته وعبارات المدح القديمة وبعض التعالي وسلوك إرهاب كان يمارسه باسم السلطة على الآخرين في الحقبة السابقة، يبدو ذلك في فصل السورية ربى حين تشهد في صيدليتها بعمان شجار المذيع السوري المنشق عن سيده الأول والذي يدرك أن أي حاكم جديد سيحتاج أول ما يحتاج إلى أسمال من سبقه وسقط متاعه وبعض فلوله اللامعة. ومرت الرواية على نتائج أحداث سياسية بارزة أصابت الشرق الأوسط والعالم، منها على سبيل المثال: ضحايا الحروب من الأطفال، موت أطفال العراق أثناء الحصار الاقتصادي في التسعينات، تعرض نساء بوسنيات للاغتصاب من جنود صرب. كل تلك الحصيلة جمعتها نادين أثناء عملها في وكالة الأنباء الفرنسية وتفاصيل حياة أصدقائها.
ومما يحسب لعمل الروائي علي شاكر إلمامة بكل صغيرة وكبيرة في الذاكرة الفيروزية وثقافة وموسيقى الرحابنة، كذلك الثقافة العالية والمعرفة الشاملة بالموسيقى الكلاسيكية من خلال الفصل الخاص بعازف البيانو الفلسطيني وليد، حيث تمر الرواية برشاقة على تراث (موزارت، بيتهوفن، باخ، رخمانوف، تشايكوفسكي، برامز، شوبرت، شوبان وريمسكي كورساكوف) الفني وأعمالهم الخالدة.
وبخصوصية عراقية ثرية يتناول الفصل الأخير الخاص بالمعمار علي تفاصيل حميمية عن المجتمع الحضري العراقي حين يوجز إحساس العراقي بمرارة القهوة واسترخاء العراقي وصفنته (شروده، تأمله) بالقول:
القهوة خيال ونشوة وحلم يقظة!
المعمار علي يدور كأي عراقي باحثًا عن أي نشاط ثقافي أو حفلة لفيروز، ففي الأمة الفيروزية أعداد هائلة من العراقيين. والمعمار العراقي علي يصفن على مذاق القهوة ويستعيد قصصًا وبشرًا وضحايا وأحياء مثل الوزيرية والكرادة والصليخ ويستعيد جملة قالتها امرأة عراقية عجوز (العلة ليست ببغداد يا ابني، العلة بأهلها). لكن أين أهلها؟
لا، العلة ببغداد التي تفترس أهلها، تارة بفيضان وتارة بالأوبئة، ومرات كثيرة بالقمع والحروب، وأكثر من ذلك بها مجتمعة. لكنها مدينة فاتنة الحسن وقاسية القلب.
هناك الكثير مما يقال ويُكتب عن رواية العراقي علي شاكر كافيه بيروت، والكثير مما يسلب اللب ويترك وجعًا وغبطة في النفس، لكن أبلغ ما قالته الرواية هو:
الزيف.. الزيف حتى في دفاتر الإنشاء التي تسمى الأشياء بغير أسمائها.
جاسم الولائي
التعليقات