تقدمنا مرهون بالتحول من التعليم إلى التعلم
في 1مارس2010م أتيحت لي الفرصة للمشاركة في مؤتمر علمي هام، اقامته مكتبة الاسكندرية بمصر تحت عنوان: "عالم يتشكل من جديد". يأتي هذا المؤتمر استمرارًا لجهود المكتبة في نشر الوعي بأهم القضايا التي طرأت على العالم العربي، خلال السنوات السابقة على المستويين الإقليمي والدولي من صراعات وتفاعلات، للاستفادة من تلك التجارب، بهدف بناء مستقبل أفضل لعالمنا العربي. وكان عنوان احدى حلقاته النقاشية المثيرة للجدل عن "دور العلم في نهضة الأمم وتقدمها". وفي سياق حديثه عن طريقة تعاملنا مع العلم اورد المفكر السعودي زكي الميلاد ثلاثة مشاهد مؤلمة تتكر دائما في بعض اقطارنا العربية، وهي مشاهد تحكي واقع الحال المرير مع المعرفة والعلم، وهي كما يلي:
المشهد الاول، عن ظاهرة تمزيق بعض الطلاب للكتب الدراسية، فور الانتهاء من الامتحانات الدراسية، حيث يعمدون إلى تمزيقها ثم رميها في الطرقات أو بجانب الحاويات أو يتم حرقها احيانا. المشهد الثاني حول تكسير محتويات المدارس، من قبل الطلاب، كالنوافذ والابواب والمقاعد والطاولات الدراسية ودورات المياه، وكل ما يمت للمدرسة بصلة. وكان المشهد الثالث هو عبارة عن وصف الحالة النفسية لمعظم الطلبة والطالبات حين بداية وانتهاء الموسم الدراسي، وبحسب تعبير المحاضر الميلاد: ان اتعس يوم للطلبة السعوديين مثلا هو يوم بداية الدراسة، وان اسعد يوم في حياتهم هو يوم العطلة!.
وبغرض تلمس اسباب كراهية العلم لدى بعض تلاميذنا، تعمدت اثناء زياراتي المتكررة لبعض المدارس أن اسأل مجموعة من الطلبة في مراحل دراسية متفاوتة، السؤال التالي: لماذا يكره التلاميذ العلم؟ اجاب الأول (8 سنوات): لأن المدرسة "متكسرة"، والثاني (13سنة) أجاب : لعدم وجود ملعب كرة قدم في المدرسة، ولأن مادة "لغتي" مملة وغير مفهومة. وأجاب الثالث (15سنة) قائلا: لأن المدرسين "ما يفهمونا عدل". في حين كانت اجابة التلميذ الرابع (17سنة): لأن كل شيء في المدرسة "بايخ"، مشيرا الى طريقة التدريس والبيئة التعليمية والمناهج الدراسية!
المشاهد الثلاثة اعلاه، التي ساقها المحاضر في المؤتمر، اصبحت مدار بحث ونقاش طويل من قبل الباحثين والاكاديميين المشاركين في المؤتمر طيلة ايامه. وكان عدد هؤلاء الباحثين المشاركين في المؤتمر يفوق الخمسين باحثا جاءوا من عشرين دولة عربية واجنبية تقريبا. اظن ان العديد منا لديه عشرات القصص والمواقف المشابهة لتلك المشاهد، التي تؤكد اننا مجتمع، مع الاسف الشديد، نكره العلم والمعرفة، ولأننا كذلك فإن تطورنا يسير ببطىء وفي اتجاهات محدودة لا تلبي الحاجات المجتمعية والتطلعات الوطنية.
ولسنا بحاجة هنا لاستحضار المزيد من الامثلة التي تبين كراهيتنا لعموم المعرفة، أو بيان فائدة العلم وأهميته، أو اجراء أية مقارنة بين عالمنا العربي والاسلامي والغرب في الاهتمام بالعلم، والفارق الحضاري بينا وبينهم في التقدم. ولكن نحن بصدد التذكير بأمرين مهمين: اولاهما، إن كراهيتنا للعلم أمر يناقض تماما لموروثنا الثقافي وقيمنا الاخلاقية ومعتقداتنا الدينية، التي تحث جميعها على العلم والتعلم، وتدعوا الى تحمل المشقة لأجله.
وثانيهما، إننا بحاجة دوما للبحث عن اسباب كراهيتنا للعلم لمعالجتها جذريا، من خلال حزمة من الخطط والاجراءات الجادة، لأن بقاء هذه المشكلة وتفاقمها سيجعلنا في ذيل الأمم المـتخلفة، وهذا ما لا نقبله لأنفسنا على الاطلاق. وفي هذا السياق ينبغي ان نتساءل دوما: لماذا اصبحنا نكره العلم، حتى بتنا متناقضين مع تعاليمنا الدينية الحاثة والمحرضة عليه والموقرة لمكانة العلم والعلماء، وما الذي سنجنيه في حال استمرت المشكلة؟
في تقديرنا ان مثل هذه التساؤلات بحاجة الى ان تعقد حولها نقاشات مستفيضة وجادة من قبل أهل الاختصاص، نظرا لأهميتها وضرورتها.واظن ان الاجابة عليها بحاجة الى ان تترجم في صورة مشاريع وبرامج عمل لدى الجهات المعنية بالتعليم اولا في الوطن العربي، عموما والسعودية خصوصا. الغرض من ذلك هو معالجة هذه الظاهرة الخطيرة على الاوطان، والدفع بعملية التعليم الى الامام.
وهنا سأكتفي بالإشارة الى مقترح اظن ان الاخذ به سيحبب العلم في نفوس ابنائنا الطلاب من جهة، كما سيعيد الاعتبار لعموم المعرفة من جهة اخرى، وبالتالي قد تتغير جذريا طريقة تعاطينا مع العلم والمعرفة. المقترح هو ضرورة سرعة " التحول السريع من التعليم الى التعلم"، إذ ان الطريقة السائدة في التعليم لدينا تقوم على تلقين الطلاب وحشو ادمغتهم بالمعلومات، باعتماد وسيلة الحفظ ، وليس بإعمال العقل وتعزيز الفهم. ووفق هذه الطريقة لا يكون الطلاب غالبا مشاركين في العملية التعليمة، وانما متلقين، وإذا كانت هناك ثمة مشاركة فهي لا تتعدى 5%، في حين أن نصيب المدرس ربما يتجاوز 95%.
ومعلوم ان هذه الطريقة مضافا الا انها منفرة للطلاب وباعثة للملل، هي ايضا طريقة تكره الطلاب لعموم المعرفة، بل تجعلهم اعداء لها، بحسب المشاهد اعلاه، وهي عديمة الجدوى والفائدة لأنها لا تحرك عقول التلاميذ ولا تنمي فيهم ملكة الابداع والبحث العلمي. وعلى العكس تماما من نظرية التعلم، التي تقوم على اعمال عقول الطلاب، من خلال النقاش والتفكير الحر والنقد والتحليل واتاحة الفرصة الاكبر للطلاب في المشاركة. ان مشاركة الطلاب في العملية التعليمية ضمن هذه النظرية الجديدة تتعدى مشاركة الاستاذ، إذ ان الاخير يصبح دوره اشبه بالموجه والمرشد ليس الا، في حين ان الدور المحوري للطالب وليس الاستاذ. ومما لاشك فيه ان نظرية التعلم أكثر جدوائية من النظرية القديمة، وهي الطريقة المتبعة في الدول المتقدمة.
وللإيضاح فإننا نقصد بعملية التحول من التعليم الى التعلم، هي تلك العملية التي يتم بموجبها الانتقال من اساليب التعليم القديمة غير الفاعلة، والذي يكون فيها الطالب شبه مهمش، الى اساليب التعلم الحديثة، التي تستهدف اعمال عقل الطالب وتنمية مهاراته الفكرية، ليتمكن من الابداع والتحليل والتفسير السليم وانتاج المعرفة. ولتحقيق هذه النقلة ليس المطلوب فقط احداث تغييرات جوهرية في اساليب ومناهج وطرق وبيئات التعليم، وانما تغير فلسفة التعلم برمتها ايضا. ولأن نظرية التعلم تؤدي تلك الغايات النبيلة، بادرت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ممثلة بمعالي المدير وعمادة التطوير الاكاديمي، بعمل ورشة لمدة اربعة ايام بدأ من 22 شوال 1435هـ، تحت عنوان "طرق التعلم :استراتيجيات تعزيز التعلم الفعال"، لغرض تطوير آليات تعلم الطلاب، والانتقال من أساليب التعليم الى اساليب التعلم، وتعزيز مساهمة الطلاب في التحصيل العلمي الذاتي.
وبحسب وكيل الجامعة للدراسات والابحاث التطبيقية الدكتور سهل عبد الجواد، أن الجامعة استضافت اربعة خبراء عالميين للمشاركة في هذا الورشة الهامة، الى جانب مشاركة 25 استاذا من اعضاء هيئة التدريس بالجامعة تلقوا تدريبا مكثفا في جامعتي بوردو وبكتل لتطوير قدراتهم في أساليب التدريس بالتركيز على الطالب، لافتا أن الجامعة تعيد تصميم عدد من المقررات لتتوافق مع هذا الاسلوب الجديد.
زبدة القول، في حال انتقلنا من مرحلة التعليم الى مرحلة التعلم، وطورنا اساليبنا ومناهجنا الدراسية، لتكون مواكبة مع متغيرات العصر، وخلقنا البيئة الملائمة للتعلم والجاذبة للعلم، واعدنا النظر في فلسفة التعليم، فإن طريقة تعاملنا مع العلم والمعرفة ستكون مختلفة تماما، كل سينعكس كل ذلك إيجابا على حاضر ومستقبل بلادنا.
محمد الشيوخ
التعليقات