الذات الالوهية في نصوص جبران خليل جبران
( الرؤية المسيحية و ماهية الاختيار النصي )
جبران خليل جبران قامة أدبية و شعرية كبيرة ، تتجاوز حدود المألوف ، و تقترب من نصية روح الاسطورة و الأسطرة في علاقة استعادة دلالات الرموز و المعاني المجازية الكبرى . أنه الرائع دوما بحضوره الابداعي في غيابه المميت ، و في حضور ذاكرة وجدانه الحي في نفوس جميع القراء و الأدباء في العالم العربي ، أنه في لغته النثرية و الشعرية ، بعيدا و قريبا من القصيدة ، و كأنه له معرفة بالشعر ، و لكن بطريقة أخرى ممتنعة ، لذا فأن القارىء لعوالم نصوص جبران الأدبية ، لربما يجده أحيانا شاعرا من غير قصيدة واضحة ، الهوية و الملامح و السمات الاجناسية . ان نص جبران ، حالة شعرية و كتابية غريبة ، تؤكد حضورها في الساحة الأدبية العربية ، دون مغامرة حقيقية معروفة في كتابة القصيدة على وجه محدد و متكامل . غير ان المدهش في عوالم هذا الكاتب ، هو ذلك التنوع و التفرد في احياء و ملامسة ( الذات الألوهية ) و تقديمها للقراءة و القارىء ، على أساس حالة من حالات الاستثناء ، في صياغة الرؤية الصوفية المطرزة ، على نحو اظهار يسوع المسيح في حالة من حالات الذهنية و الوجدانية ، و بطريقة الحفر في الذات الربانية العليا .
( في ليلة واحدة بل في ساعة واحدة بل في لمحة واحدة تنفرد عن الاجيال لأنها أقوى من الاجيال أنفتحت شفاه الروح و لفظت كلمة الحياة التي كانت في البدء عند الروح فنزلت مع نور الكواكب و أشعة القمر و تجسدت و صارت طفلا بين ذراعي أبنه من البشر .. ص1 ) جبران خليل جبران هو صاحب هذا التدوين الكلامي في الطفل يسوع ، كان ولايزال هو مدار ، جدل الباحثين في أدبه و فكره لجهة مدى حضور المسيح فيه ، و لجهة مدى غيابه عنه . في مقالنا هذا أود تسجيل انطباعيتي حول عوالم نصية هذا الأديب الكبير ، و مدى علاقتها ، بحياة السيد يسوع المسيح ، حيث لا نعرف هل ان جبران خليل له في الحقيقة ، تلك العلاقة الايمانية مع العقيدة المسيحية ، أم ان هذا مجرد نوع ما ،من التعبيرية التصويرية عن حياة يسوع المسيح . لاشك ان الغوص قي أمور لاهوتية المسيح ، و نصوص جبران لها ثمة علاقة عضوية معقدة في تأسيسات هذا الشكل النصي من الخيال و التصوير ، فمثلا يصور لنا جبران قرائيا ، على ان حياة السيد المسيح ، كانت قائمة وفق مرانات روحانية خاصة مع الرب و قومه ، في حين عندما نقرأ فصول سفر التكوين الانجيلية ، نكتشف بأن السيد المسيح ، كان شكلا رسوليا في زمن غياب الروحانية ، و شكلها الصليبي المقدس ، و على هذا الأمر نكتشف بأن التصورات المخيالية الجبرانية ، قد وضعت يسوع و رمزية المسيحية ، في مكان يوتوبي ، يذكرنا كثيرا بقصص الروم و الخرافات اليونانية و حكايات ألف ليلة وليلة و كليلة و دمنة ، على أية حال ، سوف نطالع مثل هذه المقطعية الخاصة بنصية جبران خليل جبران حول المسيحية اليسوعية :
( من رأني رأى الأب / أني في الأب و إن الأب في / أنا و الأب واحد / أنظر يايسوع الناصري الجالس في قلب دائرة النور الأعلى / أنا لست من هذا العالم .. ص2 ) ان جبران على ما اعتقد و من خلال رؤياه ليسوع ، لربما لم ينطلق من نظام تصويري متكامل ، مرجعيته نصوص انجيلية متكاملة لسيرة يسوع أبن مريم ، و بدليل أنه لم يتناول الوجود النبوي ليسوع ، على أساس مادي و جوهري ملموس ، لذلك تراه يرسم متصوراته المخيالية ، على أساس معادل زمني خيالي ، يخلو من المرجعية الايضاحية لنصية يسوع المسيح الانجيلية ، بل انه من خلال ذكره ليسوع داخل نصوصه النثرية ، يقترب في توصيفاته ليسوع ، كما لو أنه رجل صاحب كرامات الهية و لربما انه لم يذكر في أحد مشاهد نصوصه ، على ان يسوع المسيح هو رجل صاحب رسالة سماوية عريقة، و هذا الانشطار بين التصوير في شخصية المسيح و التناقض من قيمة الفصول الانجيلية المقدسة ، راح يرسم للقارىء ، صورة مشوهة و مزيفة ليسوع :
( الله لايريد اليوم ان تظهر معجزات لأنها ليست ضرورية الله يريد مسيحيين صبورين و مملؤين محبة لأن حياة المسيحي الكاملة هي معجزة مستمرة في الأرض . ص1 )
أنا شخصيا عندما أقرأ مثل هذه التصورات و الشروعات المخيالية في نصوص جبران خليل جبران ، و كيفية تصويره لحياة الفرد المسيحي ، لربما لا أجد ثمة فائدة أو حتى صلة برهانية واضحة من وراء هذه النصوص : فمثلا ما الجدوى من ذكر بأن الفرد المسيحي أو الحياة المسيحية هي معجزة مستمرة في الأرض ؟ هل ان هذا التوصيف المخيالي هو جزء من وصايا سماوية مثلا ؟ أم ان هذا مجرد كلام نصوص نثرية تتلاعب بعواطف الشخصية المسيحية ؟ . لعل جبران في رؤياه هذه عن يسوع المسيح ، لربما هي متأثرة بوصايا و شعارات القديس ( توما ) و الذي يعتقد هذا الآخر بأن الكمال الالهي يكمن وفق علة الأشياء اللامرئية في العين المجردة ، في حين أننا نجد بأن مبادىء العقيدة المسيحية ، أصولا و ثوابت واضحة و ظاهرة لكل الاعيان ، و هذا ما أكده علم اللاهوت في العقيدة المسيحية ، حيث منها ما هو خاص بها ، و منها ما هو عام ، تشاركها فيه مختلف المعتقدات الدينية في الأرض . غير أننا نجد متصورات جبران حول يسوع و المسيحية بشكل عام ، تنصب بأتجاهات لا أصول لها و لا ثوابت تتميز بها . و من جهة أخرى رأينا بأن الذات الألوهية في عوالم نصية جبران ، أخذت تجسد حضورا ناقصا و احاديا ، على أساس من ان المسيحية موضوعة انشأها يسوع و جعلها مجرد فنتازيات في مرحلة اللاوعي . و على هذا فأن القارىء لها يبقى مأخوذا بتحولات العلي الكامل و الذي هو الله ، داخل دائرة مشبهات جبران التصويرية بالمعتقد الوهمي.
( أنت تسيرين نحو الأبدية مسرعة و هذا الجسد يخطو نحو الفناء ببطء أنت ترفعين نحو العلو بجاذب السماء و هذا الجسد يسقط إلى تحت بجاذبية الأرض . ص4 )
تقول العقيدة الانجيلية ان الذين هم في السماء يرون الله بأعين النفس ، غير ان جبران يقول في رؤيا نصوصه ( كأنه رأى بعين نفسه الطاهرة ) و في مكان أخر تقول المسيحية بسرمدية النفس ، في حين يقول جبران هذا القول ( اعتقادي بأزلية النفس و خلودها ) . من هنا لعل القارىء يتعذر فهمه للمسيح و الذات الالوهية في مخيلة جبران خليل جبران ، حيث نراه يقول أخيرا ( الالوهية و هي الذات المعنوية في المسيح ) . كان ينبغي على جبران بحكم كونه مسيحيا في العقيدة ، حيث من الواجب عليه ان يصور المسيحية ، عبر منظورها في انقاذ البشرية من الخطيئة و الرذيلة و الكفر ، لا ان يقتصر في نصوصه ، على تصوير الصفات الخارجية للمسيح ، و بموجب مشاهد و تقاطعات ، هي مفارقة و مناقضة للرسالة المسيحية و إلى رجل المسيح العظيم .
حيدر عبد الرضا
التعليقات