العباءة السوداء
هذه العباءة المرقعة والمتهرئة ، تجثم بصمت عميق على صدر الحائط المليء بالشقوق والغارق في القدم . متدلية كشبح اسود ، متشبعة بظلام الليل والنهار تخلق رهبة.. في غرفة ملعونة دون نوافذ .. متدلية الأطراف والمليئة بنقور ونتوء ، لا لون لها ولا مسحة من مسحات الحياة .غير ساعة قديمة عقاربها تقطع المسافات على ا لمينا..عازفاًً للزمن..كمن يتسلق جبلاًً شاهقاًً مبتور الأقدام..
- هذه العباءة الغارقة في الدماس ، تشبعت ثناياها وأنفاقها ورقعها ،بالكائنات لا ترى بالعين.. وأي عين رأت هذه العباءة ..! غير عيني هذا الكائن المعتوه المليء بالغموض والذي ( يضرب كفة في الهواء).دون هوادة ..! متأبطا (كرة سوداء)وبين فنية وأخرى .. يضع هذه الكرة السوداء البيضاوية الشكل على أطراف اصابعة ويضربه كفا قوياًً لتدور دورتها المعتادة،ثم تسقط هاوية على الأرض ،
يخر بكل خشوع أمامه، واضعاًً رأسه عليها لينتحب بالبكاء حتى الاختناق، ويغسل كرته بدموع ساخنة ثم ينهض غارقاًً في الرمق إليها ضارباًً كفه في الهواء ثانيةًً..وهكذا ..!
ضارب الكف في الهواء، يفرض واحة جسده لتكون عرضة هذه العباءة ، ليدخل عالمه فهو مختمر به لا مسافات بينهما، شيئان في الواحد متداخلان ببعضهما.
السكون والصمت القاتل يكتهلان المعالم..عالم مجهول لا أحساس في للزمن الليل والنهار يلوجان في بعضهما ويعاقبان بعضهما.
العازفة الماهرة الميكانيكية الخلق والطبع(الصامتة وألا صامته) الساعة القاتلة الوحيدة المعلقة التي تدخل بينه وبين العباءة ( فضارب الكف في الهواء) يقف الليل كله يضرب كفه مع دقات الساعة واضعا كرته البيضاوية السوداء ، أمامه لتحركه مع تلك الدقات التي تصبح طنينا دائما وتبقى مدوية هلامية الشكل والصورة .
اخذ يهز رأسه معه دون هوادة ودون علم منه .
إذا العباءة السوداء ، والساعة القديمة ، والكرة ، عالمه الغامض حد الانصهار .
عاشق الليل والصمت والغموض ، ينام مفتوح العينين وفاهه فاغر يبان للرائي لسانه الصغير في حلقه طويلا مدببا ،ينهض مغمض العينين . يرتدى خرقا باليه ، تهلهل سراويله ، دائم الوقوف يتأرجح في وقفته .
يقذف بصاقه في الهواء عاليا ، لتكون خطوطا ودوائر وإشكالا بصاقية لزجه مثقله السقوط على الأرض . لم يصادف أن بصق على العباءة ، والساعة القديمة ، أو الكرة قط...!
في ليلة ما .. لا تاريخ لها .. جلس قبالة العباءة واخذ يصب نضرة إليها بعناد وإصرار بالغ . بقوة لا حدود لها .. حتى إن عيناه تورمت واحمرت كالجمر لكثرة النضر الحاد ، واضعا كرته بين أحضانه فارشا كفيه عليها .
لم يعرف كم من الوقت لبث منصوبا ، حتى انفلقت عيناه صوب العباءة وتطايره أشلاء متناثرة لاصقة بعباءة السوداء ، وعلى الفور أخذة العباءة تتحرك شيئا فشيئا كحدقتي عينا ضارب الكف .
الساعة أخرست وتوقفت عن العزف . استدار ونضر إليها دون عينين مندهشا .. قشعريرة قوية تسرى في بدنه تجمدت أطرافة .. انه يرى .. !
امتدت العباءة ، غطت مسافات اكبر من الغرفة لتبتلع العوالم .. لا وجود لشيء في هذا الوقت العجيب والمستعصي امتدت أكثر وأكثر إلى مالا نهاية ، بسرعة البرق ، إلى .. إلى .. حيث لا إلى...! غطت كل شيء بلون ما بعد السواد ، فتحت ثناياها ، وبانت أنفاق تلو أنفاق ومداخل تلو أخرى ، دون قعور ، كشفت من خلفها ستارا هلاميا وأشجارا وليسوا بأشجار ، أناسا وكائنات يمشون على الأربعة يحمحمون ويدمدمون ، رؤؤسا تتقاذف ، دماء تتلاطم ، بحيرات آسنة..و و كل شي مقلوب رأسا على العقب بل دون رؤؤس ودون أعقاب .. لم تالفة العيون من قبل .
لامو قع لضارب الكف في هذه اللحظة الانقلابية ألكونيه ، والتي تلوج وتنصهر وتتداخل كلل الأشياء ببعضها . فجأة انكمشت العباءة ثانية لتحتل موقعه كما كانت من القبل . بعدما قرقرت صقور سوداء بمناقير دموية واعين من الجمر ، دخلت ثنايا العباءة بأعداد لأتعد ولا تحصى ، وبعد اقل من اللحظة َََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََ.. عادت الأمور إلى ما كانت عليه ، وضارب الكف بين الموت والحياة .. لا موت ولا حياة ..
وحينما أيقن بان العباءة ، والساعة ، والكرة ، امتدت ودخلت محتكة بالعالم الخارجي الكئيب المبنى على المهازل والمخاطر .. والخطأ والخطيئة .. جن جنونه واخذ يبحث عن كرته السوداء البيضاوية الشكل .. ليضربها كفا بقوة الصواعق ، فإذا بها مشقوقة بشقوقه بارزة ملطخة بدماء سوداء .
حينها ضرب رأسه في الحائط .
واخذ يتبول ويتقيا في آن واحد على الكرة السوداء .. حتى امتلأت الغرفة وفاضت .
ومات غريقا..!
جمال جاف
التعليقات