انفصال نادر وسيمين
قصة اجتماعية بسيطة تعكس صورة مجتمع بأسره
لأي مدى يمكن لقصة اجتماعية بسيطة، وإشكال عائلي مألوف، أن يمثل حال مجتمع بأسره، ثقافته، وأخلاقه؟ ولأي مدى يمكن للأحداث، الأفعال، وردود الأفعال أن تشكل انعكاسا لأوضاع سياسية واقتصادية؟
قبل أكثر من ثلاثين عاما، حصد الفيلم الأمريكي الاجتماعي "كرامر ضد كرامر" أصداء طيبة، وأوسكار أحسن فيلم، لأن الأحداث التي تناولت قصة طلاق وصراع زوجين على حضانة طفلهما على بساطتها، عكست في جوهرها التغير الثقافي في المجتمع الأمريكي فترة سبعينات القرن الماضي؛ أي بعد عقد من حركات الاحتجاج وتحرر المرأة، واليوم نجد صدى لتلك القصة في فيلم جديد، لكنه ينتمي إلى بقعة جغرافية مغايرة، ينعكس مناخها الثقافي والسياسي والاقتصادي على أحداث القصة، إنه الفيلم الإيراني "انفصال نادر وسيمين" إنتاج 2011، للمخرج أصغر فرهادي، والذي عرض مؤخرا في نادي عبدالحميد شومان السينمائي.
في الوقت الذي كان فيه المخرج "روبرت بنتون" يقارب شكل التحولات في المجتمع الأمريكي في فيلمه "كرامر ضد كرامر" عام 1979، بدأت ملامح جديدة تفرض وجودها على المجتمع الإيراني مع أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية، فيحاول أصغر فرهادي من خلال "انفصال نادر وسيمين" أن يلامس بهدوء ملامح هذا المجتمع، بعد هذه العقود على الثورة، فهل هذا سيدعمه في الحصول على أوسكار أحسن فيلم أجنبي؟
إذن ما يزيد عن ثلاثين عاما تفصل بين الفيلمين، لكن لا المسافة الزمنية ولا الجغرافية منعت التقاطعات الكبيرة بينهما، فبداية عنوان الفيلمين يحمل معه قطبا الصراع، ففي الأول؛ السيد كرامر، وزوجته السيدة كرامر، وفي الثاني نادر وزوجته سيمين، في عنوان الفيلم الأول يقف الطرفان بندية في مواجهة بعضهما، وفي الثاني الانفصال هو الحدث الرئيسي لتداعي باقي الأحداث، في كلا الفيلمين تبادر الزوجة إلى طلب الطلاق، في الفيلم الأول الزوج الذي أصبح حجر عثرة في طريق طموح ومستقبل السيدة كرامر كان الدافع لهذا الطلب، وفي الفيلم الثاني الزوج يعيل والده العاجز فيرفض الهجرة مع زوجته التي تطمح في مستقبل أفضل للعائلة خارج ايران، وبناء على ذلك تطالب الزوجة في كلا الفيلمين من خلال المحكمة بالطلاق وحضانة الإبن أو الإبنة، في فيلم "كرامر" يصبح الإبن محور الصراع بعد الطلاق، في فيلم "انفصال" لا تقبل المحكمة الطلاق ما دام بغير رغبة الزوج، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك قضية حضانة، لكن الانفصال الكائن بين نادر وسيمين سيفتح الباب على حكاية ثانية موازية للحكاية الرئيسية، تعكس معها طبقة اجتماعية مختلفة، لتصبح الطبقة المتوسطة التي يمثلها نادر وسيمين إزاء أو في مواجهة الطبقة الفقيرة التي تمثلها أسرة الخادمة التي تعمل في المنزل لإعالة الوالد العاجز، ومن خلال نسيج القصتين والصراع المتولد عنهما، سيذهب فرهادي بفيلمه أبعد من "كرامر ضد كرامر" في الكشف عن ملامح مجتمعه المعاصر؛ المجتمع الايراني بعد أكثر من ثلاثين عاما على الثورة.
معضلات أخلاقية ودينية
الظروف الإقتصادية الصعبة تقود رضية لتخدم في منزل نادر - بعد انفصال سيمين عنه- فتعتني بوالده المريض وتنجز المهام المنزلية التي كانت تقوم بها سيمين، وبما أنها من وسط محافظ ومتدين لا يتقبل عمل المرأة في مكان يغلق عليها مع رجل وحيد، مما استدعى أن تخفي الأمر عن زوجها العاطل عن العمل والمسجون بسبب ديونه، كما إن العناية بالوالد العاجز وتغسيله وتنظيفه تضعها أمام معضلة أخلاقية دينية، فتستفتي عبر الهاتف عن مدى حرمية هذا الفعل، وتواصل الأحداث والتجارب سيرها مع رضية بحيث يضعها العامل الاقتصادي الضاغط دائما في مواجهة مع الحلال والحرام دينيا، فحين تضطر لمغادرة منزل نادر قليلا تترك والده مربوطا إلى السرير كي لا يؤذي نفسه، مما يدفع نادر إلى طردها ودفعها بقوة خارج المنزل، فتجهض لكنها مرة أخرى تقف في صراع مع الحلال والحرام، فزوجها قد رفع قضية في المحكمة ضد نادر يتهمه بقتل الجنين، فهل تقبل رضية دية الجنين من نادر، وهي غير متأكدة من أنه هو المسبب الحقيقي للإجهاض، هل سينتصر الوازع الديني؟
على الطرف المقابل الظروف العامة التي يمكن استشعارها تجعل من ايران مكان ينحسر عنه الأمل، وغير أمين على طموح سيمين –التي تنحدر من طبقة متوسطة ومتحررة نسبيا- بمستقبل لائق لها ولابنتها ولزوجها، رغم ذلك الأولويات تبدو مختلفة لزوجها، فنادر متمسك بالروابط العائلية، والحفاظ على بقاء الأسرة، في أعلى سلم أولوياته، فلن يغادر أبيه العاجز والمحتاج لرعايته، ولن يفرط بحضانة ورعاية ابنته، ولن يُطلّق سيمين، لكنه يترك لها حرية الانفصال والمغادرة، نادر يشكل نموذج الأبن والأب والزوج الإيجابي، لكن الظروف دفعته إلى حافة السقوط عندما كذب على المحكمة حين أدعى بأنه لا يعلم عن حمل رضية، لأنه أراد من جديد حماية أسرته من الضياع في حال تم سجنه، لكن هذه الكذبة تتحول إلى معضلة أخلاقية تحاصره بها ابنته التي بدأت بالشك في مصداقيته، وما أن تكتشف كذبه، حتى تَسقط صورة الأب القدوة مع دموعها، وهذا يذكر بالفيلم الإيطالي " سارق الدراجة" 1948، حيث تحول الأب إلى لص بعيني ابنه الصغير، في ظل البطالة التي كانت إحدى انعكاسات الحرب العالمية الثانية على المجتمع الإيطالي، وإن كان ثمة رابط، ففي الكيفية التي تدفع بها الأحداث والظروف - المحيطة والضاغطة- الشخصيات لارتكاب أفعال تخرجها عن أخلاقها وإرداتها، فيتحول المارد إلى قزم، وتنهار معها صورة القدوة.
صورة المجتمع
"القانون قاصر عن تحقيق العدالة" بهذه الجملة يقدم زوج الخادمة في المحكمة صرخته ضد الحياة والوضع القائم، التي تعكس بعض من صورة المجتمع، كما أن الأجيال الثلاثة في الفيلم تستكمل بقية الصورة، فهي تشكل الخط البياني للمجتمع الإيراني المعاصر؛ الجد بما يمثل من إرث، مريض بالزهايمر وعاجز يتهاوى بلا ذاكرة، جيل الأبناء من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وأخلاق تترنح على المحك، أما الأحفاد فضحايا؛ الجنين المجهض، وابنة نادر وسمين، وابنة رضية، فثمة نظرات إنكسار متبادلة ب ينهما، وثمة ضياع ينتظرهما بعد تفكك أسرهما، وانهيار المثل والنموذج أمامهما، لذا يترك المخرج النهاية مفتوحة في المحكمة، فلا نعرف ماذا ستقرر الابنة بما يخص العيش مع الأب نادر أو الأم سيمين، حيث لم يكن - في نهاية المطاف- الحب القائم بين الزوجين كافيا ليتنازل أي منهما عن كبريائه وأنانيته، ولم يكن كافيا لحماية الأسرة من السقوط، الذي حاول نادر جاهدا طيلة أحداث الفيلم أن يمنع حدوثه، حتى ولو كلفه ذلك الكذب في المحكمة.
رانيه عقله حداد
التعليقات
الاسم: |
فائز الحداد |
التاريخ: |
2012-01-17 17:43:25 |
|
كتابة جميلة وتناول واع جدا .. إنطوى على تحليل ورأي قدير . تحياتي وتقديري لك رانية حداد |
|